داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

«فوبيا» السياسة والتاريخ والأرقام

«الفوبيا» أو الرهاب أو الخوف من أمور معينة، يصيب بعض الرؤساء والقادة والسياسيين أيضاً، ولا يقتصر على عامة الناس. كان الزعيم المغولي جنكيز خان يخشى الكلاب مثل كثيرين، ولأنه كان ساخراً إلى جانب عدوانيته الشهيرة فقد اعترف ذات يوم أنه يخشى زوجته أيضاً! أما الرئيس الأميركي الثاني والثلاثين فرانكلين روزفلت فكان يخاف النار منذ أن شاهد اللهب يمسك بفستان عمته حين كان طفلاً، واستمر هذا الخوف معه حتى عندما أصبح رئيساً لبلاده، فقد كان يتعمد ترك باب غرفة نومه مفتوحاً خوفاً من نشوب حريق في البيت الأبيض. ولدى ملك بريطانيا هنري الثامن «فوبيا» الطاعون حين نُكبت بلاده بهذه الجائحة، مثلما يخشى اليوم مليارات البشر جائحة كورونا (كوفيد - 19).
في روسيا القيصرية كان بيتر العظيم يخاف من الصراصير والأسقف العالية، وكان الزعيم النازي هتلر لا يطيق أطباء الأسنان، وقال طبيبه اليهودي إن هتلر بكى حين تم خلع أسنانه وتركيب بدائل صناعية. لكن الإمبراطور البيزنطي هرقل الشهير بقوته الخارقة كان عفريته هو الموت غرقاً، لأن عالماً فلكياً يعيش في الإسكندرية توقع أن يموت هرقل غرقاً، فتسبب في خوفه من مياه البحر. وبالمناسبة حقق هرقل انتصارات كبيرة على الفرس، لكن هزيمته جاءت على يد جيوش المسلمين العرب في سوريا. ولأن هرقل مات وشبع موتاً، فإن الفرس ينتقمون اليوم على الأراضي السورية من كل من يمت بصلة إلى ذلك الإمبراطور. وما دمنا وصلنا إلى ديارنا فإن العقيد الراحل معمر القذافي كانت لديه «فوبيا» المرتفعات والرحلات الطويلة فوق البحار والمحيطات، ولذلك كان يتجنب البحار في رحلاته الجوية ويرفض السكن في الفنادق إلا إذا كان طابقه هو الأرضي! وكل هذه الأمثلة غير مهينة وحالات إنسانية لا تُسيء لأحد.
طوال عقود مضت كنا نسمع أو نقرأ عن رهاب الرقم 13 مع أنه لم تثبت أي علاقة بين هذا الرقم المسكين والرهاب أو الإرهاب. وفي السنوات الأخيرة اكتشف الناس براءة الرقم 13. فأطلقوا سراحه واعتقلوا الرقم 4 بعد أن صار كثيرون، وخاصة في الصين واليابان وفيتنام، يخافون من هذا الرقم لأنه يشبه كلمة «الموت» في لغاتهم المحلية. ولن تجد في فنادق هذه الدول غرفاً تحمل الرقم 4. بل إن كاميرات canon لا تتضمن الرقم 4 أيضاً. وانتقلت العدوى إلى التجمعات الآسيوية الشرقية في دول مثل الولايات المتحدة، وخاصة كاليفورنيا بعد أن كشفت المجلة الطبية البريطانية أن الأميركيين من أصول آسيوية كانوا أكثر عرضة للوفاة بالنوبة القلبية في اليوم الرابع من الشهر وبنسبة 27 في المائة، فترسخت الخرافة باعتبار أن هذا الرقم سيئ الحظ!
كان عميد مدرسة المسرح المرعب الفنان الراحل يوسف وهبي يخشى الضفادع ويعتبرها كائنات فضائية. بينما كان عبقري الشرّ في الأفلام المصرية القديمة استيفان روستي يخشى ركوب الحيوانات! وقد رفض الاثنان أدواراً فيها ضفادع أو حيوانات ركوب!
إلا أن أسوأ أنواع «الفوبيا» هي رهاب التاريخ والجغرافيا في السياسة، اللذين ذهب ضحية لهما ملايين البشر في حروب داخلية وإقليمية وعالمية منذ آلاف السنين. نريد أو لا نريد، نعترف أو لا نعترف: نحن قوم نستثقل التاريخ. تستفزنا حكاياته وأحداثه وشخصياته. لدينا عقدة اسمها الخوف من التاريخ «فوبيا التاريخ». والغريب أن تاريخنا ليس فيه ما يخجلنا أو يجعلنا أمة شاذة بين الأمم. قلتُ هذا في مقال سابق، وأعيده اليوم. فتاريخنا لم يكن حروباً ونزاعات وزعامات فحسب، وإنما حضارات وأديان وتقاليد ومدن وحدائق معلقة وأهرام شامخة وسدود وجامعات وفتوحات ليست دينية فقط، وإنما فتوحات حضارية حين كان أجدادنا يقرأون ويكتبون بلغات ابتدعوها منذ فجر الكتابة المسمارية في العراق القديم إلى اللغة الهيروغليفية في مصر الفرعونية. وما شاء الله على لغتنا العربية.
ليست لدينا «فوبيا» الماضي السحيق ولا نخشى أن «يُعيّرنا» أحد باندثار حضاراتنا البابلية والسومرية والأكدية والآشورية والفرعونية. فكلما اندثرت حضارة، نبعت أخرى؛ أعمق. أنضج. أكثر إنارة وثباتاً.
نعترف بسهولة أننا قوم لدينا «عقدة» اسمها «التاريخ الدموي» و«جغرافيا الحروب». وننسى، أو نتجاهل أن كل الأمم والحضارات مرت بهذه «العقدة» وليس في تاريخنا ما يخجلنا أو يجعلنا أمة شاردة بين الأمم. كل الأقوام حاربت وانتصرت وانكسرت، لكنها لم تنكر تاريخها ولا أغمضت عيونها عن الحقب السوداء والظلم والاستبداد والقهر والفقر والجهل والسخرة والعبيد. من الأصالة والشجاعة أن نقرّ: هذا هو تاريخنا بسلبياته وإيجابياته. التاريخ لا يُجري عمليات تجميل ولا ترشيق ولا تلوين ولا «مونتاج» ولا رقابة. نحبها أو نكرهها: هذه هي البضاعة.
ما الذي يحدث؟ كلما صدر كتاب فيه وجهة نظر تاريخية مختلفة عما نحفظه جيلاً بعد جيل، قامت القيامة. كلما عُرض فيلم سينمائي أجنبي يتناول وقائع تمس تاريخنا شهرنا أسلحتنا وأنيابنا وأظافرنا ضده. ويطالب بعضنا السينمائيين الأجانب بقراءة المعلقات السبع للحارث بن حلزة اليشكري وزهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم ولبيد بن أبي ربيعة العامري وامرئ القيس وعنترة بن شداد العبسي الذي يكفيه أنه قائل: «يَا دَارَ عَبْلـة بِالجَواءِ تَكَلَمِي... وَعِمِي صَبَاحاً دَارَ عبْلة واسلَمِي». يريد النقاد العرب من السينمائيين الأجانب أن ينتجوا أفلامهم على مقاساتنا وكتاتيبنا ونظاراتنا وأذواقنا ومَوّالاتنا ومقاماتنا ومخيمات لجوئنا وزنزانات سجوننا وتصريحات مسؤولينا وحماس مذيعينا وتعليقات محللينا الاستراتيجيين.
إنه الخوف من التاريخ. دع عنك سفسطة «تشويه التاريخ والمغالطات»، فهذه ستارة بالية لم تعد تصلح للعصر، لكنها تناسب موظفين تقليديين يهيمنون على مكاتب الرقابة. وأنا أقول ذلك، مشيراً إلى أنني كنت رقيباً للأفلام السينمائية في بلدي في السبعينات من القرن الماضي.
وكما في التاريخ، لدينا في الجغرافيا وديان أعمق وجبال رواس وأنهار لا تجف، ونرددها في قصائدنا وأناشيدنا ومسلسلاتنا وأفلامنا السينمائية وكتبنا الوثائقية ومفاوضاتنا السياسية، وليس في كل ذلك أدنى عيب أو مساس بحضاراتنا وأدياننا السابقة واللاحقة.
وأخيراً، لستُ طبيباً نفسياً ولا مفتياً ولا قاضياً، لكن، كما قال عادل إمام: ده اقتراحي في الموضوع!