د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

أميركا والأرمن... مشاهدات صادمة وروايات مختلفة

في زمن الرئيس الإيراني الإصلاحي محمد خاتمي (1997 – 2001)، كانت هناك محاولة من جانب الإصلاحيين الإيرانيين لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع مصر والمقطوعة منذ زمن الخميني. حينذاك عُقدت عدة ندوات في القاهرة وطهران بين باحثين مصريين وإيرانيين، وفي إحدى هذه المناسبات زار الباحثون المصريون، وكنت أحدهم، مدينة أصفهان في الشمال الإيراني، وهي مدينة يعيش فيها أقلية أرمينية من المسيحيين الأرثوذكس، ولديهم كنيسة يُقيمون فيها الصلوات، وبها معرض للصور وبعض مقاطع مصورة توثق ما تعرض له الأرمن في زمن الإمبراطورية العثمانية بين عامي 1915 و1916. والصور إجمالاً تحتوي على مشاهد صادمة لأحداث جرت في عدد من القرى الأرمينية على يد مجموعات مسلحة من الأتراك. وتثير الصور إجمالاً حالة من الصدمة للمشاهِد الذي يرى هذا الكم في زمن قصير. فضلاً على الشرح الذي أفاض به عامل الكنيسة.
في عام 2003 وقبل الحملة الأميركية البريطانية على العراق، شاركت في إحدى الندوات في أنقرة، كان أحد ضيوفها قائداً عسكرياً تركياً كبيراً وقد خرج على المعاش لتوِّه، وجرى نقاش حول تاريخ تركيا الحديث، وتطور الأمر إلى مناقشة حقيقة مذابح الأرمن 1915، وقد اعترف الرجل بصراحة بحدوث عمليات تهجير للأرمن من قراهم إلى مناطق بعيدة، كما حدث ما وصفه بالمواجهات التي ترتب عليها قتل أعداد من الأرمن، وأيضاً بعض الأتراك. وفي تفسير الأمر ذكر القائد العسكري أن ذلك الزمن كان زمن فتنة شديدة واضطراب في قمة الحكم التركي بعد الهزيمة على يد الروس قبل عدة سنوات، وأن هؤلاء الأرمن - حسب قوله - كانوا قد خانوا انتماءهم للسلطنة، وتعاونوا مع الروس وتسببوا في هزيمة الجيش العثماني، وحين جاء أعضاء جمعية «الاتحاد والترقي» ذوو النزعة القومية المفرطة والذين نادوا بدايةً من عام 1912 بتطهير تركيا من العناصر غير المسلمة، تم تشكيل مجموعات مسلحة كانت مهمتها دفع الأرمن إلى الخروج من أراضي السلطنة، وهي الحملات التي شهدت مواجهات مع مَن وصفهم هذا القائد العسكري التركي بالمجموعات الأرمينية المسلحة التي انتهكت من قبل علاقتها بالمسلمين الأتراك وقتلت منهم الكثير. وخلاصة الأمر أن قتلى الأرمن لم يكونوا نتيجة عملية ممنهجة، ولكنها حصيلة مواجهات متبادلة راح ضحيتها أيضاً قتلى من المسلمين الأتراك.
هذا التصوير لما وقع في عام 1915، فيه ما يمكن وصفه بنصف اعتراف يقوم على أن ما حدث هو نتيجة صراع متبادل بين مسلحين من كلا الطرفين، ولكنه لا يقدم تفسيراً مقنعاً لكثرة القتلى والضحايا من الأرمن، وانخفاض أعدادهم في غضون أقل من عام ونصف من 1,7 مليون نسمة إلى أقل من 284 ألف نسمة فقط وفقاً للوثائق التركية الرسمية آنذاك، فضلاً على الانهيار الكامل للقرى التي كان الأرمن يعيشون فيها وسلب ممتلكاتهم. وفي الروايات التركية الحديثة نسبياً، وبعد إنكار للأحداث، بدا ثمة اعتراف بقتل ما يقرب من 300 ألف نسمة فقط من الأرمن وليس أكثر من ذلك، وهو أمر يؤسَف له حسب الرؤية التركية، ولكن لا يمثّل وفق هذه التفسيرات أساساً قانونياً لوصف ما حدث بأنها إبادة جماعية كالتي وصف بها الرئيس الأميركي بايدن يوم 24 أبريل (نيسان) الماضي مذابح الأرمن قبل 106 أعوام، مثل عشر دول سبقته في هذا الوصف.
المهم في الموقف التركي أنه تطور عبر المائة عام الماضية من الإنكار الكامل إلى الاعتراف بوجود قتل لعدد كبير من الأرمن والأتراك معاً. في المقابل ظل التفسير والموقف الأرمني على حاله، والقائل بوجود جريمة كبرى وإبادة ضد آلاف من الأرمن سواء بالتهجير القسري أو القتل الجماعي أو سلب الممتلكات.
هذا التباين في وصف حدث جلل قبل مائة عام، ارتبط بتوثيق الشهادات الحية والبحث في وثائق، لا سيما المراسلات التي كتبها سفراء وقناصل الدول الأوروبية لدى الدولة العثمانية وفيها كثير من المعلومات التي تثبت جزئياً وجهتَي النظر، لا سيما وجود جماعات مسلحة من الأرمن ولكن قبل 1915، ويقابلهم مسلحون من الأتراك ارتبطوا بحزب «الاتحاد والترقي» ذي النزعة القومية المتطرفة، وهم الذين يُنسب إليهم قتل الأرمن وتهجيرهم وفق عملية مرتّبة. ولذا فإن وصف الإبادة الجماعية الذي استخدمه الرئيس بايدن يمكن النظر إليه بوصفه أحد عناصر هذا الجدل التاريخي. ورغم قسوة الوصف، فإن تأثيراته العملية لا تتعدى الضغط المعنوي على الدولة التركية. أما الأثر القانوني فهو غائب، إذ لا يوجد أي تحرك دولي يفرض مثلاً تقديم اعتذار رسمي من الحكومة التركية لما جرى ضد الأرمن، يتبعه تقديم تعويضات جماعية لهم لا سيما مَن نجا منهم بشكل أو بآخر. لكن من جانب آخر يظل الموقف الأميركي ذا دلالة بالنسبة إلى العلاقات مع أنقرة في المرحلة الراهنة، والتي تعيش حالة أزمة نتيجة تباين الرؤى والمواقف تجاه عدد من القضايا المشتركة، لا سيما ما يتعلق بالعلاقة التركية شبه الخاصة مع روسيا والتي يبرز فيها التعاون بين البلدين في الشأن السوري، وشراء أنقرة بطاريات الصواريخ الروسية «إس 400» المضادة للطائرات، التي تعدها واشنطن خطراً جسيماً على طائراتها المتقدمة التي تمثل عماد قواتها الجوية وأساس القوات الجوية لحلف «ناتو».
وقد كان لافتاً للنظر أن الرئيس بايدن أبلغ نظيره التركي هاتفياً بنيّته إعلان وصف إبادة جماعية على أحداث الأرمن 1915 قبل يومين من إعلان قراره، راغباً في تخفيف الصدمة على نظيره التركي، وهو ما يكشف مزيجاً من الدوافع وراء الإعلان الأميركي؛ أولها أن حساباته داخلية بالأساس، وتستهدف احتواء الضغوط التي يمارسها كبار النواب والشيوخ الديمقراطيين من أجل الضغط على تركيا لتغيير مواقفها التي يرونها مرفوضة أميركياً، وثانيها أنه بمثابة تنبيه قوي لأنقرة التي تلعب على الطرفين الروسي والأميركي، وتذكرة لها بأن تلك السياسة ليست مقبولة ولها تداعيات سلبية على أنقرة، وثالثها يكشف حرص إدارة بايدن على الحفاظ على شعرة معاوية مع أنقرة لعل هذه الضغوط تعيدها إلى الرشد الأميركي.
هذه الحسابات الداخلية أنتجت بدورها أثراً لم يكن في الحسبان، والسؤال المطروح: هل يقْدم الرئيس بايدن على الاعتراف بما جرى ضد السكان الأصليين للقارة الأميركية قبل قدوم المهاجرين الأوائل إليها والذين أسسوا الدولة الأميركية؟ وهل يعترف بحدوث عمليات قتل جماعي تقترب من معنى الإبادة؟ وهل يقْدم على تصحيح التاريخ أو إعادة روايته بطريقة منصفة وعادلة؟ ثم ماذا عن التعويضات التي يستحقها أحفاد الأسلاف الذين قضوا عمداً؟ أسئلة كثيرة ومزعجة، تؤكد بدهية أن التاريخ الذي نعرفه هو من صُنع المنتصرين، وأن هناك روايات وأبعاداً أخرى يتم إنكارها أو تجاهلها عمداً إلى أن يأتي من يكشف الغطاء عنها.