خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

التحالف المصري ـ السعودي أهم من أي وقت مضى

سد النهضة، التمرد الحوثي في اليمن، هجوم «إسرائيلي» على سفينة تجسس إيرانية، تخوف عالمي بسبب تعطل الملاحة في قناة السويس أياماً معدودة... أخبار رابطها ذلك البحر الهادئ الأزرق الصافي، الذي أكسبته شعبه المرجانية البديعة صفة الأحمر.
لكن فيه من الأخبار أيضاً ما هو جدير بالاهتمام، وإنْ حظيَ بقدر أقل من التغطية. في مقابل حدّه الجنوبي الشرقي، الذي يسعى وكلاء إيران الحوثيون إلى تثبيت نفوذ لها فيه، هناك تنافس أميركي صيني على قواعد عسكرية، بالتحديد في جيبوتي والصومال، حده الجنوبي الغربي.
الصومال أيضاً منطقة نفوذ متزايد لتركيا. هذه الدولة الإقليمية البعيدة سَعَت سابقاً إلى إنشاء قاعدة لها في سواكن السودانية. تركيا مطلة على البحر المتوسط والبحر الأسود وبحر إيجه، وتتحكم في مضيق البوسفور المهم. اهتمامها بالبحر الأحمر البعيد عنها، مع اهتمام إيران، وهما ليستا من القوى العالمية الكبرى، ينبئنا الكثير. لقد صار البحر الأحمر محط تنافس عالمي وإقليمي، يكتمل بالأنباء عن سعي روسيا أيضاً إلى موطئ قدم.
مصر والسعودية من بين هؤلاء جميعاً تملكان الشواطئ الأطول والأكثر استقراراً. جغرافيا لم يغيّرها تعاقب الزمن ولا تغير التاريخ. البلدان على مرأى العين المجردة أحدهما من الآخر في بعض مواضعه، ويمكن السباحة بينهما ذهاباً وعودةً في يوم واحد. أهمية البحر الأحمر لهما وجودية، لا توسعية.
لو انعدمت كل الأسباب الأخرى لوجب أن يكون البلدان حليفين راسخين، لأنهما معاً، وفقط معاً، قادران على الدفاع عن مصالحهما، وفقط معاً قادران على التفكير في إثراء تلك المصالح.
فما بالك ونحن في عالم متقلب، وفترة هي الأخطر على شكل خريطة المنطقة منذ استقرت على حالها قبل قرن. ما بالك والتحالفات العالمية التقليدية لم تعد موثوقة، ولا مفهومة. ما بالك ونحن لا نواجه رغبات توسعية من قوى كبرى يمكن تجييش الصف الداخلي ضدها، بل ازدوجت مع رغبات توسعية لدول إقليمية لها من العناصر المحلية الداعمة ما لم يعد ممكناً إنكار أثره في الإقليم. لقد أسقطت هذه العناصر المحلية الداعمة كبرى جمهوريات القرن العشرين، أو تحكمت في السلطة فيها، أو حازت السلطة الاجتماعية المواطنين. وأكثر من ذلك، حوّلت استقرار دول كبرى وأمن مواطنيها إلى ورقة مساومة مع دولة بحجم وأهمية الولايات المتحدة. خدمات بعضها فوق بعض. للقوتين الإقليميتين التوسعيتين بداية، ثم منهما إلى القوة العظمى في العالم.
التحالف المصري السعودي الإماراتي أثبت سابقاً قدرته على تثبيت أقدامه في أشد اللحظات صعوبة، ثم أثبت قدرته على تغيير الموازين في أقرب فرصة سياسية سانحة. لذلك كان خلال العقد الماضي هدفاً دائماً لخصومه، وأعوان خصومه؛ الظاهر منهم يجاهر بعدائه، والمتخفي منهم يحرض عليه مدعياً وطنية الدوافع. وما من دافع وطني أقوى ولا أهم في الفترة الحالية من تماسك هذا التحالف.
لكن التماسك فقط ليس كافياً. الثبات في زمن متغير، والدفاع في زمن التوسع، يحتاجان إلى فرق «عمليات سياسية خاصة»، لاعبين أحرار من القيود، يفاجئون الخصوم بأفعال تأخذ زمام المبادرة. كان من أمثلتها السلام الإماراتي الإسرائيلي، الذي غيّر قواعد اللعبة. وقفز فوق «الثوابت» التي يكبّلك بها خصومك.
التحالف المصري - السعودي في حاجة ماسّة إلى شجاعة الخطو إلى الأمام، إلى تحويل هذه «الكتلة» البشرية الاقتصادية المعنوية الهائلة إلى «قوة»، لو استعرنا التعبير الفيزيائي: القوة = الكتلة X التسارع. يحتاج التحالف سياسياً إلى طاقة حركة، بدايتها تخلّصه من الشعارات السياسية التي نجحت في الهيمنة على الرأي العام، وإدراك أن الثوابت سبب للمشكلات وليست طريقة الحل. مَثَلُها التاريخي الأقرب الأثقال التي رُبطت إلى أقدام جنود لإرغامهم على الثبات حين الوغى، فما كانت إلا سبباً رئيسياً في الهزيمة. الخصوم يطوّقوننا من الخارج بمساوماتهم علينا، وعناصرهم المحلية الداعمة تطوّقنا من الداخل بتكبيل خياراتنا. وينصحنا الخصوم بمزيد من التمسك بـ«الثوابت».
على المحكّ الآن تهديدات وجودية، تحوَّل فيها حلفاء إلى مبتزين، ولم يعد أمامنا إلا الاعتماد على أنفسنا، وعلى توسيع تحالفاتنا مع أصحاب المصالح المشتركة. لا مفر هنا من القلق والإحساس بالضغط، لكنّ الحياة تعلّمنا أن مثل تلك المواقف تصنع منّا أفراداً أفضل، إنْ أثبتنا معدننا، وكنا مبدعين في خياراتنا، وهي كذلك للدول. السياسة الدولية ليست مجالاً للإجابات المعلبة، أكانت على المقاهي أو في قاعات الجامعة، بل تجربة مستمرة متجددة مع ظروف متغيرة. بالحساب الرياضي، فإن اكتساب صديق ليس أقل أثراً من تحييد عدو، لا أقل شجاعة، ولا أقل جائزة. كل هدف تحرزه من هجمة مباغتة، وجملة تكتيكية غير متوقعة، يصعّب المهمة على خصمك. لقد أعطانا التاريخ المعاصر، في الجغرافيا القريبة، الأمثلة الواضحة على النتائج المأساوية لنجاح الشعارات محتكرة التصفيق الجماهيري، وتصفيق فئات عريضة من المثقفين.