أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

التظاهر والاحتيال ليس خياراً أمام إيران

شهران أم تسعة أشهر؟ هذا هو التساؤل المتداول اليوم على نطاق واسع فيما يخص أحدث «الحوادث» التي وقعت داخل منشأة نطنز النووية الإيرانية، حيث تعكف إيران على برنامج ضخم لتخصيب اليورانيوم. وجرى إيعاز الحادث الأخير للاستخبارات الإسرائيلية، وتسبب في تعطيل قرابة خمسة آلاف جهاز طرد مركزي، كان قد جرى تشغيلها بأقصى قوة لديها منذ شهرين، سعياً وراء الضغط على الإدارة الأميركية الجديدة في واشنطن.
من جهتهم، قال مسؤولون إيرانيون إن أجهزة الطرد المركزي يمكن أن تعاود العمل بكامل قوتها في غضون شهرين. في المقابل، يرى خبراء غربيون أن تسعة أشهر تبدو فترة أكثر احتمالاً. ووقعت «الحادثة» في وقت كان يشارك فيه مبعوثون من إيران في محادثات غير مباشرة مع دبلوماسيين أميركيين حول اتفاق محتمل تقلص إيران بمقتضاه برنامج تخصيب اليورانيوم مقابل رفع العقوبات التي تفرضها واشنطن والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ضدها.
والتساؤل الأبرز هنا ما إذا كانت إسرائيل، لو كانت حقاً من يقف خلف «الحادث»، قد نسقت الأمر مع إدارة الرئيس بايدن الجديدة، الأمر الذي تعتبره طهران في حكم المستحيل. ولو أن هناك تنسيقاً، فإننا يجب أن نفترض حينها أن إسرائيل من خلال ذلك تحاول القيام بدور لمعاونة بايدن على دفع الملالي نحو إبداء بعض اللين في المفاوضات الجديدة... رقصة مزدوجة مارستها الولايات المتحدة وإسرائيل كثيراً في الشرق الأوسط من قبل. ومع هذا، إذا كانت إسرائيل قد تحركت من تلقاء نفسها، فإننا يجب أن نفترض حينها أن تقدير إسرائيل للتهديد الإيراني مختلف عن تقدير إدارة الرئيس بايدن.
ربما يكون وجود جمهورية إسلامية مسلحة نووياً مجرد مصدر إزعاج للولايات المتحدة، بينما يشكل ذلك تهديداً وجودياً لإسرائيل.
في كل الأحوال، يبقى ثمة أمر واحد مؤكد: مثلما ذكر مقال افتتاحي لـ«واشنطن بوست» الأسبوع الماضي، فإنه في الوقت الذي تعتقد فيه إدارة بايدن أن «الحوادث» الإسرائيلية ربما ترجئ البرنامج النووي الإيراني، فإن الولايات المتحدة وحدها من يستطيع وقف هذا البرنامج عبر السبل الدبلوماسية.
ومع ذلك، دعونا نتساءل: ماذا لو أن القضية النووية برمتها، التي بناها الرئيس الأسبق باراك أوباما باعتبارها لب «المشكلة الإيرانية»، تشكل مجرد إلهاء مصمم لوضع أعداء حقيقيين أو وهميين على مسار خاطئ؟
هل لدى الجمهورية الإسلامية سياسة نووية؟
يدعي «المرشد الأعلى» علي خامنئي ومساعدوه أن لدى إيران بالفعل سياسة نووية، وأنها ترمي إلى إنتاج الكهرباء، ومن أجل ذلك يعكفون على تخصيب اليورانيوم.
ومع ذلك، وبعد 42 عاماً من استيلائهم على السلطة، لا يزال لدى إيران محطة طاقة نووية واحدة شبه مهجورة، غالباً ما يجري إغلاقها وتنتج أقل من 1 في المائة من الكهرباء التي تحتاج إليها إيران. وحتى مع هذه المحطة، لا تحتاج إيران إلى تخصيب اليورانيوم محلياً، نظراً لأن الوقود المطلوب لمحطة الطاقة الوحيدة لديها يجري توفيره من جانب الجهات الروسية التي اضطلعت ببناء المحطة حتى موعد خروج المحطة عن العمل عام 2032.
إذاً، هل تخصب إيران اليورانيوم لبناء قنبلة؟
من جهته، كان أوباما مصراً على أن هذه ليست الحال. واستشهد في هذا الأمر بـ«فتوى» أصدرها خامنئي تحرم على المسلمين بناء قنابل نووية (حري عن القول إنه بخلاف أوباما، لم يطلع أحد على هذه الفتوى).
وإذا افترضنا أن الرئيس بايدن يشارك أوباما قناعته، وأنه رأى وصدق هو الآخر هذه الفتوى، فإن هذا يدفعنا للتعجب من السبب وراء اهتمامه بمنع الملالي من إهدار مواردهم على أمر ليس له استخدام واضح. بالنسبة للملالي، فإن ما يقدمونه بسيط: وعداً بعدم فعل شيء يدعون أنهم لم يفعلوه قط، ولا يفعلونه، ولن يرغبوا يوماً في فعله.
ماذا لو أن ما يراه الكثيرون باعتباره السياسة النووية للجمهورية الإسلامية مجرد تظاهر، أو بالأحرى احتيال، وليس سياسة؟ في الواقع، هذا التظاهر يخدم مصالح نظام الخميني من خلال تحويل دفة الاهتمام بعيداً عن الأخطاء والجرائم الحقيقية التي يقترفها النظام داخل إيران وخارجها طيلة أربعة عقود.
وربما ينتهي الأمر بـ«المبادرة» الدبلوماسية الراهنة التي صاغها الأوروبيون، بالتوصل إلى تسوية تقدم في إطارها الولايات المتحدة على رفع بعض العقوبات على الأقل التي تفرضها ضد إيران مقابل موافقة طهران على إبطاء برنامج تخصيب اليورانيوم الخاص بها. ومن خلال ذلك، يمكن لإدارة بايدن أن تضيف لسجلها إنجازاً دبلوماسياً، بينما يحصل الملالي المحرومون بشدة من النقد منذ عام 2019، على المال اللازم كي يستمروا في الأخطاء التي يرتكبونها على ذات المنوال القديم، أو ربما على نطاق أكبر.
الحقيقة أن نظام الخميني لا يؤذي أحداً بتخصيبه اليورانيوم الذي لا يحتاج إليه عند مستوى 20 في المائة، ولأسباب فنية، لن يتمكن من استغلال هذا اليورانيوم حتى لو أراد بناء قنبلة نووية. إلا أنه يؤذي الكثيرين من خلال تأجيجه الإرهاب وزعزعته الاستقرار عبر مساحات واسعة من الشرق الأوسط وما وراءه.
وقد أسهم مبدأ «تصدير الثورة» بالفعل في إشعال وإطالة أمد الحرب في اليمن. ومن دون مشاركة النظام الإيراني، ربما لم تكن الحرب الأهلية السورية لتسفر عن أكبر مأساة في العالم في القرن الجديد، ومن خلال تأسيس جماعة «حزب الله»، دفع الملالي لبنان إلى حافة غياب الحكم، بل وربما الانهيار الممنهج.
ومن خلال دعم أكثر الجماعات الراديكالية الممانعة، أسهم الملالي في إعاقة الطريق إلى التوصل لاتفاق تعايش مشترك بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
داخل إيران، ارتكب نظام الخميني جرائم ضد جميع فئات المجتمع تقريباً من خلال قتل متظاهرين سلميين واضطهاد الأقليات الدينية والمنشقين السياسيين وتدمير المؤسسات المحورية من خلال الفساد وسوء الإدارة وانعدام الكفاءة، مثلما نشهد في إطار جهود التصدي لجائحة فيروس «كوفيد – 19» الراهنة.
وإغفال كل ما سبق، ناهيك عن احتجاز عشرات الرهائن وقتل مئات الجنود الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين بسبب العبوات المفخخة المزروعة على جوانب الطرق والهجمات الإرهابية في لبنان والعراق وأفغانستان، وما يزيد على 100 عملية إرهابية في 22 دولة عبر أرجاء العالم، سيشكل ذروة السذاجة والاضمحلال الأخلاقي.
في الوقت ذاته، وفر الملالي غطاءً «إسلامياً» لما ارتكبته كل من روسيا والصين في الشيشان وشرق تركستان. كما يتجلى زيف ادعاءاتهم الإسلامية على أصعدة أخرى؛ على سبيل المثال، ساند الملالي ضم روسيا لجيوب مسلمة تتمثل في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ونشر قوات روسية في سوريا وجمهورية أذربيجان التي كانت تابعة فيما مضى للاتحاد السوفياتي. وأعاق الملالي الطريق أمام اتخاذ إجراء مشترك لدعم أكثر من مليون من مسلمي الروهينغا ممن طردوا من منازلهم على يد القوات البورمية. ومن اللافت كذلك أن نظاماً يصور نفسه باعتباره بطل «الإسلام الحقيقي» يأبى حتى اليوم الاعتراف بكوسوفو، أحدث دولة ذات أغلبية مسلمة تنال استقلالها، وذلك بإيعاز من روسيا.
من كل ما سبق يتضح أنه لا يمكن إيجاز المشكلة الإيرانية في الدرجة المتفق عليها لتخصيب اليورانيوم، ولا قصرها على سلوك إيران، مثلما ادعى أوباما. والمؤكد أن التظاهر لا يمكن أن يصبح أبداً بديلاً عن سياسة حقيقية.