د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

قناة السويس وحرب البدائل

البحث عن بدائل قناة السويس كممر بحري يربط بين الشرق والغرب ليس جديداً. الأمر تم تداوله منذ مطلع الخمسينات في القرن المنصرم، وحتى قبل أن تؤمم مصر الناصرية القناة 1956 وتحولها إلى شركة مصرية وتعوض مالكيها الأجانب السابقين. وما طُرح أثناء أزمة جنوح إحدى سفن الحاويات العملاقة، التي استمرت ستة أيام من 23 إلى 28 مارس (آذار) الماضي، كان مجرد أفكار قديمة سبق الحديث عنها، كقناة بن غوريون الإسرائيلية، وأخرى جديدة روجت لها كل من روسيا وإيران ومصادر هندية وإن بخجل، لصالح استخدام ممر بحري في الشمال المتجمد، وفقاً لروسيا، بدعوى أنه يوفر مسافة تقرب من 7000 كم عن طريق قناة السويس. أما الممر المطروح إيرانياً وهندياً فيطرح الربط بين ميناء جابهار الإيراني في جنوب البلاد وربطه بريا بميناء آخر في أقصى الشمال على البحر الأسود. وكلا الطرحيْن يدعي الأمان الأكبر وتوفير الوقت والمال مقارنة بقناة السويس.
المصريون وكثير من العرب ينظرون إلى تلك الأطروحات باعتبارها استهدافاً مباشراً لمصر وأحد أهم مواردها الاقتصادية، بهدف محاصرة دورها العربي الإقليمي، إضافة بالطبع إلى تأثيرات سد النهضة الإثيوبي السلبية إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق ملزم قانوناً يضبط عملية الملء والتشغيل وبما لا يَضُر الموارد والحقوق المائية التاريخية لمصر والسودان. قِدم بعض المشروعات لأكثر من 70 عاماً دون اتخاذ خطوة واحدة من أجل تحويلها إلى واقع يثير تساؤلات عديدة حول جدواها وإمكانية تنفيذها والتكلفة المنتظرة والعوائد الممكن تحقيقها، وذلك مقارنة بما تحققه القناة بالفعل ليس لمصر وحدها سواء عوائد أو مكانة بحكم الموقع الجغرافي، وإنما لحركة التجارة والنقل والشحن العالمية ذات الصلات الوثيقة بسلاسل الإمداد الدولية، التي أصبحت أكثر حساسية الآن لعامل الوقت.
المقارنة الموضوعية تعد أساسية بالنسبة لتقدير جدوى تلك المشروعات حال الشروع في تنفيذها، وبالتالي مدى ما تمثله من تهديد فعلي لقناة السويس كشريان رئيسي للتجارة الدولية ونقل النفط والغاز المسال، فضلاً عن مرور القطع والسفن الحربية أياً كانت جنسيتها مروراً بريئاً كما تقره اتفاقية القسطنطينية أكتوبر (تشرين الأول) 1888، التي تعد بمثابة دستور المرور الدولي في القناة. وكان لافتاً للنظر، وربما من قبيل الصدفة أنه بمجرد انتهاء أزمة السفينة الجانحة والعودة إلى الدورة الطبيعية لعمل القناة، مرت حاملة الطائرات الأميركية إيزنهاور قادمة من الشمال إلى الجنوب ومعها عدة قطع مرافقة، بسهولة ويسر، وهي سفينة حربية عملاقة تقترب مقاييسها طولاً من السفينة التجارية التي جنحت وتسببت في الأزمة، إذ يبلغ طولها 333 متراً، بينما السفينة التجارية تبلغ 400 متر، وأما عرضها فحاملة الطائرات أكبر من السفينة التجارية الجانحة بحوالي 45 متراً في بعض مساحات السطح العلوي. ويبلغ غاطس كلتيهما ما بين 16 إلى 18 متراً. بينما غاطس القناة يصل إلى 25 متراً ما يوازي 66 قدماً. ما يعني أن القناة ستظل الممر البحري الأبرز، ليس فقط للتجارة، وإنما لكل الأنشطة البحرية البريئة.
السؤال الرئيسي في جدوى أي بديل لقناة السويس هو مدى قدرته على منافسة القناة من حيث تكاليف الإنشاء ثم التشغيل، ومدى توافر الأمان الملاحي والقدرة على العمل ليلاً ونهاراً وطوال أيام السنة وليس بضعة أسابيع، وسهولة المرور وأن يكون بحرياً خالصاً، إضافة إلى الموقع الوسط الذي يربط الشرق والغرب بطريقة سلسة ومباشرة، وكون الدولة التي يمر بها الممر الملاحي ذات علاقات طيبة مع الجميع ولا تُضمر شراً لأحد.
لقد أُغلقت قناة السويس من قبل لمدة سبع سنوات بين 1967 وحتى 1975، ومع ذلك لم يجرؤ أحد على البدء بإنشاء قناة بن غوريون الإسرائيلية، التي تُطرح باعتبارها مشروعاً إقليمياً دولياً من شأنه أن يعيد تشكيل خريطة القوى والنفوذ في المنطقة لصالح إسرائيل، مع بعض العوائد العارضة للأطراف الأخرى التي تقبل التعاون في تنفيذ المشروع. المعلومات المتوافرة حول قناة بن غوريون وموقعها المقترح يناقض تماماً المبادئ الراسخة بشأن الممرات الملاحية الآمنة والمباشرة بين طرفين. فطبيعة الأرض الصخرية والمرتفعة في بعض المناطق إلى أكثر 340 متراً ثم المندفعة إلى الأسفل بأكثر من 260 متراً، ثم الارتفاع إلى 642 متراً عن سطح البحر، بإجمالي فروق يزيد على 1000 متر، يجعل المنطقة إجمالاً عصية على إنشاء ممر ملاحي ينافس قناة السويس. ووفقاً لوثائق أميركية رُفع عنها الحظر، فقد تم التفكير في الخمسينات من القرن الماضي باستخدام قنابل نووية طاقة 2 ميغا طن لحفر القناة، ما يؤكد استحالة إنشائها لغرض الملاحة، وأن الترويج لها وقت الأزمة العابرة يهدف إلى إرباك صانع القرار المصري.
الشيء بالشيء يذكر، فقد وجدت روسيا أن أزمة السفينة الجانحة فرصة لترويج الممر الشمالي المتجمد باعتباره بديلاً للملاحة الدولية، ودعت العالم لاعتماده بدلاً من قناة السويس، لأنه الأكثر أمناً، حسب الدعاية التي أطلقتها شركة روس توم المنتجة لكاسحات الجليد التي تعمل بمحركات نووية، والتي ترافق السفن التجارية في أشهر معدودة من السنة. هذا الممر تستخدمه بالفعل سفن صغيرة وفي مدة زمنية محدودة سنوياً، والمناخ البارد بقسوة في المنطقة يحول دون أن يُصبح ممراً طوال العام. وكل ما يمر فيه وفقاً للبيانات الروسية حوالي 18 مليون طن، تحققه قناة السويس بالفعل في غضون عشرة أيام فقط، حيث يمر فيها حوالي 1.8 مليون طن يومياً. وقد دعا الرئيس بوتين إلى رفعها في السنوات الخمس المقبلة إلى 80 مليون طن. أي أن المستهدف من القناة الروسية المتجمدة بعد خمس سنوات من الآن حال إنجازه، تحققه قناة السويس بالفعل في 47 يوماً فقط وبمعايير الوقت الحالي.
كون القناة السويس منافسة وذات باع كممر ملاحي يحقق مزايا كبرى للتجارة والملاحة الدولية بكل أنواعها وفق مقاييس اليوم، لا يعني أنها تتوقف عن تطوير ذاتها وتعزيز قدراتها ومواكبة التطور الجاري في صناعة السفن من حيث الطول والعرض وعمق الغاطس وزيادة الأوزان الكلية للسفينة وما عليها من محمولات. جزء من هذا التطوير حدث بالفعل أكتوبر 2015 مع إنشاء القناة الفرعية بطول 35 كم والموازية للقناة الأم في النطاق الشمالي، والتي لعبت دوراً مهماً في السنوات الأربع الماضية في خفض مدة الانتظار لقوافل السفن حتى إتمام العبور. والمطروح حالياً البحث الجاد في شق قناة موازية أخرى في القطاع الجنوبي، وبحيث يكون للقناة فرعان يعملان بصورة منفردة وفي كلا الاتجاهين. وهناك من يطرح قناة أخرى تربط بين طابا في خليج العقبة والعريش على البحر المتوسط، وهي قيد الدراسة المعمقة. والمرجح تقرير الخطوة التالية في غضون مدة قصيرة.