يبدو أن من قرر الدعوة لاجراء الانتخابات بعد مصادرة حق الناس منها لسنوات طويلة، لم يكن فقط في حالة انقطاع عن الواقع الذي أنتجه ليس فقط الانقسام ، بل ومعها سياسة التفرد و ما خلفته من فشل و انفضاض غير مسبوق عن التيار المركزي و ما كان يمثله من برنامج وطني و قدرة على تجميع الحالة الفلسطينية بكل تشعباتها و مشاربها و تشتتها في أصقاع الكون.
فمنذ فشل المشروع السياسي للتسوية ممثلاً بمسار أوسلو أو حتى بمبادرة السلام الفلسطينية لعام 1988، و الساحة السياسية الفلسطينية تشهد محطات سياسية داخلية أدت حتى هذه اللحظة إلى ، تراجع ملحوظ في دور التيار المركزي الذي تمثله حركة فتح و معها حلفائها من فصائل منظمة التحرير، والذي ترافق مع فشل هذا التيار في بناء السلطة الوطنية بما ينسجم مع مهمتها المركزية لتعزيز قدرة الناس على الصمود في دعم و مساندة الاهداف السياسي وفي مقدمتها الخلاص من الاحتلال، الأمر الذي توِّج بخسارتها للانتخابات عام 2006، و من ثم خضوع هذا التيار لشروط الرباعية التي تجاوزت التزامات أوسلو نفسه، مما سرَّع، و ضمن أسباب أخرى تتعلق بمنطلقات حماس الاخوانية المنشأ، في الانقلاب على السلطة في حزيران 2007 لتجد نفسها منفردة في حكم القطاع و تواجه وحيدة مسؤولية الفشل في ادارة احتياجات أكثر من مليوني فلسطيني، دفعوا خلالها ثمن ثلاث حروب عدوانية شنتها اسرائيل على قطاع غزة، حيث أن حصاد هذه السنوات العجاف لم يقتصر فقط على آلاف الضحايا من الشهداء و الجرحي و المعاقين، أو تدمير آلاف البيوت و معظم البنية التحتية للاقتصاد الهش و الضعيف في قطاع غزة ، بل و الأخطر هو مصادرة الأمل في نفوس الغزيين و تحويلهم من حماة للهوية الوطنية منذ النكبة إلى حالة من التيه باتوا فيها مستعدين للتعامل مع أي خيار يخرجهم من حالة الموت البطي الذي يواجهونه يوميًا ، سيما الأجيال الجديدة، التي تتعرض لتهشيم منظم للوعي الوطني الذي تميز به القطاع، عبر مخططات كي الوعي الاسرائيلية، و دعوات الحل هو الاسلام الحمساوية والدعاء لله بتغيير الأحوال دون الاخذ بالأسباب، بالاضافة لإدارة ظهر السلطة لهم و التخلي عن دورها لتلبية احتياجاتهم و تركهم لمعاناتهم، و الاخطر ما ولده ذلك من شعور باليتم في علاقتهم مع مشروعهم الوطني الشامل و مع قيادتهم الوطنية الشرعية ممثلة بمنظمة التحرير .
بهذا التطور لمكانة قطاع غزة تحت ادارة حماس، تأكد فشل الحركة الاسلامية الاخوانية في فلسطين، و قدرتها على الحكم و ادارة الشأن السياسي للقضية الفلسطينية وفق منظورها الاخواني، مما دفعها للبحث مجدداً عن ثمن نيل شرعيتها بديلاً عن المراجعة السياسية و اشكال المقاومة المكلفة دون قدرة على تحقيق نتائج سياسية أو ميدانية، الامر الذي أضاف بعداً جديداً للأزمة الوطنية التي لم تعد تقتصر على التيار المركزي الذي تقوده حركة فتح بل بات يشمل التيار الذي سعى لاستبدال التيار المركزي في المنظمة وهي حركة حماس.
استمر الصراع بين حركتي فتح و حماس اللذان فيما يبدو وصلا خط النهاية في البحث عن حبل النجاة لانقاذ مكانتيهما و سلطتيهما و ما يتطلبه ذلك من تجديد لشرعيتهما، معتقدين أنه يمكنهما تمرير انتخابات شكلية منطلقين من نقطة واحدة في العلاقة مع الشعب و كأنه ضمير غائب مستتر غير مرأي ولا وجود له .
اذن انطلق كلاهما، و خاصة فتح التي تعيش مأزق استراتيجي، بالقفز عن متطلبات المراجعة الموضوعية و الذاتية لاسباب الفشل و في هذا السياق يتم استخلاص العبر التي تحمي وحدة النسيج المجتمعي المستهدفة اصلاً من الاحتلال ، و من ثم العودة للشعب لاختيار قيادة جديدة مؤتمنة على الاهداف الوطنية و قادرة على تصويب المسار السياسي و استنباط سبل جديدة للمقاومة الوطنية و مركزها الصمود الميداني المقاوم لمساندة الصمود السياسي المطلوب. هذا في وقت كانت تكمن أو تنتظر فيه حماس لاحتمالية تفكك السلطة و تيارها المركزي، للاستيلاء على التمثيل الكامل ليس فقط على صعيد السلطة بل و على المنظمة ، و لتحقيق هذا الغرض فهي بحاجة ليس فقط للشرعية الانتخابية، بل و لارسال رسالة مفادها أنها جاهزة لمقاسمة فتح في الالتزام بشروط التسوية المفقودة و في مقدمتها الالتزام بما يسمى بشروط الرباعية كي تكون مؤهلة بالكامل للتعامل مع الدور المطلوب منها في الثمن الأكبر المتمثل بدور حارس أمن اسرائيل الذي تلعبه سلطة التيار المركزي، وهذا ما تخضع له حركة حماس في قطاع غزة لاختبار مدى قدرتها على الفوز بالعطاء ، و هي تثبت قدرتها على ذلك كل يوم عبر شنطة المبعوث القطري.
اذن هذا هو الحال و البيئة السياسية، و ما ولدته من بيئة اجتماعية و قيمية، التي تحيط بالعملية الانتخابية، و التي تتسم باستمرار تفكك التيار المركزي ليس فقط داخل حركة فتح بل و على صعيد اليسار الذي فشل فشلاً ذريعاً في لعب أي دور لصون الوحدة الوطنية كما سبق و تمكن من ذلك على الصعيدين السياسي و الفكري منذ بدايات انطلاقة الثورة وحتى اندلاع الانتفاضة الكبرى ، كما يفشل اليوم في مجرد بلورة رؤية جماعية تحميه من خطر الاندثار، و قرر المضي في مسادا ارادية معلومة النتائج مسبقاً، ربما يستثنى من ذلك الجبهة الشعبية التي ما زالت قادرة على منع الاندثار بالاعتماد على تاريخها و ليس لامتلاكها برنامجاً بديلاً و مقنعاً لإمكانية التغيير كي يلتف حوله الناس.
أمام هذه المخاطر المفصلية التي تواجهها الحركة الوطنية في مآلاتها الراهنة، لا يبدو أنها قادرة على توليد الجديد من رحمها المتآكل، كما أن القوى الاجتماعية الأخرى غير جاهزة في ظروف التراجع التاريخي أن تنهض ببديل واضح و مكتمل يستجيب لمتطلبات اللحظة التاريخية، لان الخراب لم يقتصر عى قوى الحركة الوطنية بل امتد كذلك ليصيب نخبها الفكرية و المجتمعة ، كما غاب عن التأثير شخصيات وازنة كما حدث مباشرة في سنوات ما بعد النكبة أو هزيمة حزيران 67.
السؤال الذي يطرحه الجميع حول إمكانية الالتزام بموعد الانتخابات في نهاية مايو آيار أو تأجيله، لا يمتلك الاجابة عليه سوى الرئيس عباس، كمظهر هو الأبرز للازمة الفلسطينية و المتمثلة بالتفرد و احتكار القرارات المصيرية والمتصلة كذلك بالشأن الداخلى .
التقدم نحو الانتخابات ربما يحمل مخاطر وأشكال جديدة من الصراع على السلطة والتمثيل الذي لم يتم التوافق عليه سوى بنقل الانقسام لتقاسم البلد بالمحاصصة وليس من ىضمخلال الشراكة في صنع القرار الوطني و تحمل المسؤولية بادارتهاً، و ما يتطلبه ذلك من مراجعة سياسية شاملة و اعادة النظر بصورة جذرية في الأداء و فلسفة الحكم من خلال ربط انجاز مهمات التحرر الوطني بمهام البناء الديمقراطي و الذي تتلخص بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و ايلاء كل ما يتصل بقضايا الناس بما يكفي من الاهتمام الذي يمكنهم من الصمود باعتبار أن وظيفة و دور أي مؤسسة حكومية أو أهلية أو خاصة تقاس اهميتها و مبرر بقائها بهذه المهمة أساساً، كما أن تأجيل أو الغاء الانتخابات يحمل مخاطر الانفجار الاجتماعي الذي ربما يترافق مع كل أشكال الفوضى الأمنية و العودة للفلتان تحت السيطرة الاسرائيلية و التي ستكون نتائجها معلومة، لا بل و مرئية بدقة، فاسرائيل هي العامل الأكثر تأثيراً في الشأن الداخلي، و فشل الحركة الوطنية المتواصل و استمرار تفككها يعظم من الدور الاسرائيلي و امتداداتها.
التغيير الجوهري الذي شهدته الساحة الفلسطينية هو أنه لم يعد بالامكان الاستفراد بالقيادة و الحكم من أي جهة كانت و أن الحل ليس بالمحاصصة على حساب الناس و الوطن ، بل المطلوب مراجعة و مسار ديمقراطي يحق الشراكة الوطنية الكاملة في تحمل المسؤولية و ليس اقتسام البلد الذي لن يفضى سوى لوأد المشروع الوطني و التفريط بتضحيات عظيمة قدمها الفلسطينيون على مدار ما يزيد عن قرن من الزمن .
اذا ما العمل أمام هذا المشهد المظلم والذي يفتقر للحكمة والحكماء القادرين على التأثير ؟ ربما النداء التي وجهه سلام فياض قبل يومين بدعوة كافة القوى و رؤساء الكتل الاساسية و قادة المجتمع لحوار وطني جدي يخرج ليس بما يسمى وثيقة شرف بل بخارطة طريق ملموسة للخروج من المأزق سواء باجراء الانتخابات أو تأجيلها و لكن الأهم بمراجعة المسار الذي أوصلنا اما نحن فيه، وليس بالمضي نحو مقصلة القضية بالرضوخ لشروط هي أسوأ بما لا يقاس من أوسلو ذاتها و هذه المرة بموافقة القطبين المهيمنين على المشهد الدرامي، و هذا ما لا يجب أن يسمح به بغض النظر عن السيناريو المتصل بالالتزام بالموعد المحدد للانتخابات أو تأجيلها ، فقيمة الانتخابات الوحيدة تتمثل بصون وحدة الشعب و اعادة بناء حركته الوطنية و وحدة النظام السياسي ، و يجب ألا يسمح تحت أي ظرف كان بانزلاقها نحو مزيد من الشرذمة و تبعات ذلك في أن تصبح فريسة سهلة لمخططات اسرائيل المعدة بإحكام من قبل حكام تل أبيب لتصفية القضية الفلسطينية
- كاتب سياسي
- رئيس مركز الأرض للابحاث و الدراسات و السياسات
8:18 دقيقه
TT
الانتخابات و مآلات الحالة الفلسطينية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة