أزمة الأسلحة الكيماوية السورية ومواقف المجتمع الدولي تذكرنا بالكثير من الأزمات التي عصفت بالعالم منذ النصف الأخير من القرن العشرين والتي كانت مقدمات لحروب دموية أو نزاعات طويلة الأمد، وكذلك تعيد إلى الأذهان المواقف والسياسات الروسية تجاه القضايا العالمية الساخنة خاصة قضايا الشرق الأوسط، تلك السياسات التي تتسم بالتأخر في التحرك على طريقة الدب الروسي بطيء الحركة وغامض التوجهات وخاذل الحلفاء إن لم يكن يغرر بهم أحيانا في سبيل ما يعتقد أنه يحقق مصالح موسكو، وهذا ما فعله من قبل ويفعله الآن حيال الأزمة السورية وسوف يتكرر السيناريو مستقبلا مع إيران التي تعول كثيرا على المواقف الروسية في دعم مواقفها أمام المجتمع الدولي.
كنا نتمنى أن يكون التحرك الروسي تجاه أزمة الأسلحة الكيماوية السورية سريعا وصادقا وقبل ذلك بكثير، وكنا نتمنى أن تمنع موسكو حليفها الأسد من استخدام السلاح الكيماوي لقتل الأطفال والنساء والشيوخ من أبناء الشعب السوري أي حماية الضحية قبل وقوع الجريمة، وليس حماية القاتل ومكافأته على ارتكاب جريمته، وكنا نتمنى أن يكون الموقف الروسي بدافع أخلاقي ووازع إنساني، وليس من باب تحقيق المصالح أو المناورة أمام أميركا والمجتمع الدولي لتحقيق مكاسب، أو تقاسم مغانم، أو استعادة بعض أمجاد الحرب الباردة على حساب أرواح الشعوب، وكنا نتمنى أن تحافظ موسكو على وجود الثقة فيها كقوة كبرى وعضو دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي، لكن يبدو أنها لا تستطيع أن تتخلى عن إرثها السياسي، وحلمها القديم في الوصول إلى المياه الدافئة ببراغماتية موغلة في الأنانية.
وبالعودة إلى أزمة السلاح الكيماوي السوري، فالحل الدبلوماسي يجب أن يقوم على أسس الاعتراف بأن الجريمة الأساسية هي ليست حيازة الأسلحة الكيماوية (رغم كونها من الأسلحة المحرمة دوليا)، بل هي استخدام هذه الأسلحة ضد السكان المدنيين بشكل متعمد ومع سبق الإصرار والتخطيط لتنفيذ هذه الجريمة النكراء من جانب المسؤولين في دولتهم، لذا فإن مقترح تخلي نظام بشار الأسد عن الأسلحة الكيماوية فقط معناه محاولة تجاوز الفعل الإجرامي الأساسي وهو {الاستخدام الفعلي لهذا السلاح وارتكاب جريمة القتل الجماعي والعشوائي ضد السكان المدنيين العزل» وهي من الجرائم الخطيرة التي تنص عليها القوانين الدولية وتقدم مرتكبيها للمحاكمات، وفي هذا التوقيت فإن قبول النظام السوري {بمبدأ التخلي} عن السلاح الكيماوي يعتبر اعترافا قانونيا بامتلاك النظام لهذا السلاح، وهي خطوة سابقة على اعترافه باستخدام هذا السلاح وهذا ما سوف تؤكده التحقيقات الدولية المحايدة ولجان تقصي الحقائق، وهذا الاعتراف غير المسبوق يقدم للمجتمع الدولي معلومة مؤكدة ولأول مرة أن سوريا تمتلك أسلحة كيماوية، حيث لم يكن يمتلك المجتمع الدولي سابقا أي اعتراف أو إقرار سوري رسمي يؤكد امتلاك نظام الأسد لهذا السلاح المحرم، وما دامت دمشق اعترفت بامتلاك هذا السلاح المحظور استخدامه دوليا، فإن أي اتفاق للتعامل مع النظام السوري يجب أن ينطلق من عدة أسس وهي: ضرورة التخلي عن السلاح الكيماوي تحت مظلة إشراف دولي كامل، وليس عبر {حسن النوايا} للنظام السوري، أو من خلال اتفاق ثنائي روسي - سوري، نظرا لضعف الثقة في موسكو، مع ضرورة تأسيس آلية دولية لمحاسبة المسؤولين عن استخدام هذا السلاح سواء يوم 21 أغسطس (آب) أو قبل ذلك، على أن يشمل التحقيق جميع الأشخاص المسؤولين ضمن التسلسل القيادي في هرم القيادة السورية من دون استثناء لأي قيادة سياسية، أو عسكرية، أو أمنية، وعدم منح أي حصانة قانونية لشخص الرئيس بشار الأسد، مع حتمية تحديد إطار زمني لتنفيذ ذلك مع تحديد المرجعية الدولية التي تشرف على التنفيذ.
كما أنه من الضروري تنفيذ المهمات سابقة الذكر طبقا لقرار من مجلس الأمن الدولي في إطار الباب السابع لميثاق المنظمة الدولية (باب الإكراه) أي استخدام القوة لتنفيذ ذلك، وأن تُشكّل لجان أممية لها عدة مهام منها الإشراف على محاسبة العناصر التي قامت باستخدام السلاح الكيماوي أو وجهت باستخدام هذا السلاح أو أصدرت الأوامر بذلك، ولجنة أخرى تتولى مهمة الإشراف على مهمة السيطرة على مخزون الترسانة الكيماوية والإشراف المباشر على تدميرها أو نقلها إلى خارج سوريا (في مهمة مشابهة لمهمة تدمير مخزون أسلحة الدمار الشامل العراقية)، على أن تكون المرجعية الوحيدة لهذه اللجان هي مجلس الأمن الدولي، وليس الحكومة السورية، وأن تكون صلاحياتها غير مقيدة وممنوحة لها من مجلس الأمن الدولي طبقا لقرارات صادرة من المجلس دون لبس أو غموض.
إذا تُطبّقت هذه الآلية الدولية الجادة فسوف يجري القضاء على الترسانة السورية من الأسلحة الكيماوية التي لم يستخدمها الأسد إلا ضد شعبه الأعزل، رغم تشدقه التاريخي بالقيم والتقاليد، ومزاعمه الدائمة بما كان يتغنى به دوما من وقوفه في خندق الدفاع عن الحقوق العربية والنضال المشرف في وجه إسرائيل، وهذه المزاعم التي سقطت في مستنقع قتل شعبه فقط، ولعل تصريحات وزير خارجية نظام دمشق وليد المعلم في موسكو هذا الأسبوع، تؤكد أن أعداء سوريا في الداخل وليس إسرائيل التي لم ترد مطلقا على لسان المعلم الذي طالما كان يحلو لنظامه التغني بها منذ وصوله الدموي إلى الحكم.
أخيرا هل سيسمح المجتمع الدولي بمكافأة بشار الأسد على جريمته تحت غطاء من التبرير والخداع الروسي، أم ستجري محاسبته على ما اقترفت يداه؟ علما أن الموقف الروسي ينطلق من الدفاع عن مصالح موسكو فقط وللتغطية على أزماتها الداخلية وليس دفاعا عن شعوب أو دول الشرق الأوسط وهذه هي عادتها دائما.
* رئيس مركز الخليج للأبحاث
[email protected]