حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

لبنان: مسرح العبث السياسي والارتهان المدمِّر!

أواخر الحرب الأهلية حمل الموفد الأميركي ريتشارد مورفي، إلى الفرقاء اللبنانيين «مقترحاً مشتركاً» مع الرئيس السوري: مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية أو الفوضى! وبعد نحو ربع قرن من الزمن قال: «حزب الله» لبقية الطبقة السياسية: العماد ميشال عون مرشح وحيد لرئاسة الجمهورية أو الفراغ!
في زمن حرب أهلية وتقاتُل الميليشيات على جثة البلد، تم إسقاط ترشيح النائب الضاهر وانتشرت الفوضى الدامية! ذلك أن الرئيس أمين الجميل عندما انتهت ولايته في عام 1988 وبعدما سقطت كل محاولات انتخاب رئيس للجمهورية، أقدم على تسمية قائد الجيش ميشال عون رئيساً للحكومة المفترض أنها مؤقتة ومهمتها تأمين انتخاب رئيس جديد للبلاد. وقد حظيت تلك الخطوة بتأييد «القوات اللبنانية»، القوة العسكرية الأساسية التي يقودها د. سمير جعجع منذ إبعاده منافسيه قبل نحوٍ من عامين، بعد إسقاط «الاتفاق الثلاثي» الذي جمع إيلي حبيقة إلى نبيه بري ووليد جنبلاط برعاية الرئيس السوري حافظ الأسد. جعجع التقى الجميل قبل الإعلان عن الخطوة وخرج من القصر الجمهوري لَيَعِد اللبنانيين بأن الآتي «حكومة استقلال وأكثر»!
وفي زمن السلم الأهلي، وبعد ربع قرن وبالتحديد عند نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان، دعم «حزب الله» العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، رغم أن هذا الفريق لم يكن يملك الأكثرية النيابية المطلوبة، وكان الشعار: ميشال عون أو الفراغ! ومُنعت الانتخابات الرئاسية وعاش لبنان 30 شهراً مع الشغور في رئاسة الجمهورية، وشكّل هذا الدعم «وفاءً» من الحزب لشريكه في «اتفاق مارمخايل»، وهو الاتفاق الذي أمّن التغطية الطائفية المسيحية لكل الممارسات الداخلية التي أدّت إلى تغوّل الدويلة على الدولة، بحيث كان القضم المتتالي للسلطة، ونشوء الاقتصاد الموازي على حساب اقتصاد البلد وإمكاناته! كما وفّر ذلك الاتفاق التغطية للأدوار التي قامت بها ميليشيا «حزب الله» في الحرب على الشعب السوري، وكل التدخلات التي هندستها طهران والتي حوّلت لبنان إلى منصة صواريخ فوقع البلد في العزلة والمحظور.
قرأت الطبقة السياسية المرحلة انطلاقاً من الاتفاق النووي الأميركي – الغربي مع إيران، فجرى نقل البندقية من كتفٍ إلى كتف، فكانت «مشهدية معراب» عندما أُعلن عن تحالف حزبي «التيار العوني» مع «القوات اللبنانية» على ترئيس عون وتقاسم متساوٍ لمقاعد الحكم العائدة للمسيحيين، لكن المهمة لم تكتمل إلاّ مع انضمام الرئيس سعد الحريري، رئيس الكتلة النيابية الكبرى، لتلتحق ببقية الأطراف، فيما استمر رئيس البرلمان نبيه بري على تحفظه ورفضه، ليُنتخب العماد عون، المرشح الوحيد، رئيساً للجمهورية آخر شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2016 ويعود إلى القصر الجمهوري الذي أخرجه منه جيش الاحتلال السوري في 13 أكتوبر 1990! تحقق الحلم الرئاسي ووصف د. سمير جعجع الحدث الانتخابي بأنه «صُنع في لبنان»! في حين كان انتخاب رئيس للجمهورية يتم دوماً على تقاطع التقاء مصالح إقليمية – دولية! والحصيلة الحقيقية تمثلت في تسلم «حزب الله» القرار اللبناني مقابل محاصصة سلطوية للآخرين!
العماد عون رئيساً للحكومة العسكرية في عام الـ88 لم يوجه الدعوة لانتخاب رئيس للجمهورية بل سيطر على القصر وأطلق «حروب الإلغاء» العونية! استهدف فريق «القوات اللبنانية» والبطريرك صفير والمجلس النيابي معلناً حلّه (...) وهاجم الاجتماعات النيابية في الطائف، ورفض وثيقة الوفاق الوطني، كما تمرد على أول رئيس بعد «الطائف» رينيه معوض الذي قُتل يوم الاستقلال، وناصب الرئيس إلياس الهراوي العداء، ما أبقاه خارج العاصمة في ثكنة أبلح البقاعية لأشهُر. وأدت الحروب إلى تدمير مناطق كانت نسبياً آمنة، والأخطر أن تلك الحروب قضت على توازن بين الطوائف، لم يتم ردمه رغم اعتماد اتفاق الطائف والدستور الذي راعى المناصفة، فتعمقت المظلومية واستُسهل الإبعاد! وبدأت المنطقة تتحول إلى رصيف هجرة جماعية، إذّاك حاول السياسي فؤاد بطرس فرملة الاندفاعة العونية فقصد القصر ليسأله ماذا يريد؟ فكان جواب عون يومها: أريد تغيير السياسة الأميركية! فانتفض بطرس واقفاً ليخرج، فسأله: لمَ العجلة؟ ليرد بطرس أنه لو استمع أحد لهذا الحديث لقال: «مجنون عم يحكي وأحمق عم يسمع وأنا لست أحمق»!
ما جرى في الأيام القليلة الماضية في بيروت يشكّل ذروة في العبثية لم يعرف لبنان لها مثيلاً من قبل. عبثٌ على مستوى القمة، يحمل كل بذور التدمير والخراب، ويكشف عن المدى الذي بلغه عقم الطبقة السياسية، ومدى التنكر للأولويات اللبنانية الذي بلغه «حزب الله»، في ارتهانه البلد للأجندة الإيرانية.
بعدما أداروا الظهر لمطالب الناس، وكل الضغوط لتشكيل حكومة مستقلة من خارج المنظومة التي دفعت البلد إلى الحضيض، صارت مسؤولية منظومة الحكم بعد 7 أشهر ونيف على سقوط حكومة دياب إثر تفجير المرفأ وبيروت، وأكثر من 5 أشهر على تكليف الحريري، تأليفَ حكومةٍ تدير الأزمة ربما تفرمل الانهيار أو تبطئ من اندفاعته وتفتح كوّة لإخراج البلد من عزلته. هذه المهمة هي التحدي الأصغر قياساً إلى حجم الانهيارات والقرارات المطلوبة، لاستعادة الثقة استناداً إلى إصلاحات أولية، كانت قد تعهدت بها الحكومات المتعاقبة، وتملص منها تحالف ميليشيات الحرب والمال، وذلك لأن أولويتهم الدائمة المضي في محاصصة مقيتة تحمي مكاسب وامتيازات ومواقع، ما أدى إلى ما يشبه الأزمة الوجودية والتهديد الحقيقي للكيان!
في العمق لم يتغير الرجل الذي كان أواخر الثمانينات، وجسيمةٌ هي مسؤولية مَن انتخبه، واليوم يتصرف على قاعدة قوة إضافية أعطته إياها المرجعية التي يستند إليها، أي «حزب الله»، ويمكن تلمس جانب من النتائج في عملية التأليف التي وضعت البلد الموجود في عين العاصفة أمام حائط مسدود، بعدما كسرت ممارسة القصر كل المعروف عن ممارسات التعسف، فأرسل إلى الحريري رسالة بتشكيلة حكومية ويبلغه أنه «يُستحسن» ملء الفراغ بالأسماء، فكان الرد أن «ليس على الرئيس المكلف أن يقوم بتعبئة أوراق من أحد، ولا عمل رئيس الجمهورية أن يشكّل حكومة»! لقد بدا الهاجس خلف ما يجري هو الإمساك بقرار التعطيل، والأمر مكّن لأن البلد يُحكم بالأعراف لا بالدستور. تمسكت الرئاسة بـ«الثلث المعطل» في الحكومة وتراهن على الاستثمار في المجاعة والخراب وتفشي الوباء القاتل، خدمةً لحلم توريث الرئاسة إلى النائب جبران باسيل: الشخصية التي عاقبتها الثورة قبل أن تعاقبها الإدارة الأميركية استناداً إلى قانون «ماغنيتسكي»! وفي كل هذا الصراع الذي يهدد باندثار البلد يقطف «حزب الله» التعطيل الذي يخدم أجندة حكام طهران!
جراح 1989 بالكاد اندملت، لكن ممارسات 2021 تهدِّد بإعادة البلد إلى زمن المجاعة الكبرى، والخشية أنه من دون البديل السياسي المطلوب من ثورة تشرين، ومن دون عقوبات دولية رادعة، سيتم إفشال كل المبادرات وكل منحى إنقاذي، والعنوان المعلن التوريث، بينما الحقيقة هي تحويل البلد إلى مجرد جغرافيا من دون سكان، وخراب لتسهيل سيطرة محور الممانعة من دمشق إلى طهران!