قصة القومية والوطنية، ومعظم الجدالات الدائرة حولها، هي قصة المسافة بين نظامين اجتماعيين: نظام يقدس استقلال الفرد، ويتجسد الآن في التيار العام لليبرالية، في مقابل نظام يقدس الجماعة ولا ينظر للفرد إلا من زاوية انتمائه إليها. وهو نظام يجسده - ولو على نطاق مصغر - القول الشائع عندنا «وش ترجع؟»، وهو سؤال معناه: إلى أي جماعة تنتمي؟ ويقال عادة بقصد تحديد المسافة بين السائل ومن يتلقى السؤال.
الجدل حول مكانة الفرد قديم في الفلسفة. وربما يكون قد بدأ مع مقولة أرسطو الشهيرة «الإنسان حيوان اجتماعي»، أو «حيوان سياسي» كما ذكر في مكان آخر. ومقصود هذا الفيلسوف الكبير أن فضائل الإنسان وقابلياته لا تتبلور ولا تنمو خارج الجماعة. ومن ذلك مثلاً أن اللغة والقابلية للكلام، هي صلة الوصل بين الفرد وعالمه، فبقدر استعمالها ينشط عقله وتزداد قدرته على فهم العالم. ولو اعتزل العالم وعاش في صحراء، أو نشأ بين حيوانات الغابة، فقد ينمو متوحشاً أو شبيهاً بالمتوحشين، ولن يكتشف الطريق إلى الكمال الإنساني.
لهذه الفكرة مكان محوري في نظرية أرسطو السياسية، لا سيما توصيفه لمفهوم المجتمع والمدينة، وجوهر الرابطة التي تربط بين أعضائها. لقد ركز أرسطو على محور التكليف، فقرر أن المجتمع الفاضل هو الذي يقوم كل عضو فيه بواجباته، ولا يطالب بتغيير دوره أو مكانته، لأن قيامه بواجباته يسهل على الأعضاء الآخرين اكتساب المعرفة والفضائل.
بموجب هذه الرؤية، فإن الفرد لا يقرر هويته ولا مكانه الاجتماعي، بل «يجد نفسه فيه». ولكي تسير الأمور على النحو الصحيح، فإن عليه أداء الواجبات التي يقررها النظام الاجتماعي، كي يمسي مستحقاً للهوية والمكانة والحماية، التي يمنحها المجتمع لأعضائه.
وقد انتقلت هذه الفكرة من دون تعديل تقريباً إلى التفكير الإسلامي في العصور المتقدمة، ومنه إلى الإسلاميين المعاصرين، الذين وجدوا فيها تصوراً يلائم الاعتقاد القائل إن الإيثار أسمى الفضائل، وإن أصدق معانيه يتجسد في قيام الفرد بأمر الجماعة، حتى لو لم يحصل على شيء في المقابل.
أما في العصور الحديثة فقد تراجعت هذه الرؤية. وبرزت بدلاً عنها الرؤية الليبرالية، لا سيما في نسختها الفردانية، التي تركز على استقلال الفرد، وكونه حراً في اختيار حياته والإطار الاجتماعي - الثقافي أو العقيدي - الذي يود أن يحمل هويته. العلاقة التي تقوم بين الفرد والجماعة هنا اختيارية إلى حد كبير. يمكن للفرد أن يستمر فيها أو يتخلى عنها إن شاء. كما أنَّها علاقة تفاعلية، حيث يتأثر الفرد بالنظام الاجتماعي، ويؤثر فيه، كما يسهم في تطوير الهوية الجمعية أو حتى إعادة صياغتها.
إن مكانة الفرد هي الفارق الرئيسي بين الرؤيتين. في الرؤية القديمة الفرد مجرد تابع للجماعة، يحمل هويتها ويتبنى مواقفها، كي يحصل على الحقوق التي تقررها الجماعة لأعضائها. أما في الرؤية الحديثة فإنَّ الفرد هو محور الجماعة، وهو عضو فيها باختياره، لكنه يملك الحق في التخلي عنها أو تعديل شروط علاقته معها والهويات الأخرى التي يريد أن يحملها في مجاورة الهوية الرئيسية.
وأظننا جميعاً نلاحظ أن النسخة الآيديولوجية للقومية والأممية، تهتم بالتضحية الفردية من أجل الجماعة، وتصنفها بين أرفع القيم، لكنها نادراً ما تتحدث عن حقوق الأفراد على النظام وما يتصل بهذا من أمور.
TT
المسألة القومية واستقلال الفرد
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة