المملكة العربية السعودية والعالم في حالة حزن استثنائية على رحيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - يرحمه الله - حيث فقدت المملكة والعالم أحد أهم القادة العظام الذين قدموا الكثير مما يصعب حصره لشعبه وأمتيه العربية والإسلامية وللعالم أجمع، وعزاؤنا فيما تم من انتقال سلس للسلطة في المملكة العربية السعودية بطريقة يندر تكرارها في كثير من دول العالم، كما أن الأسرة الحاكمة في المملكة ثرية بأكفأ الرجال من مدرسة الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل - طيب الله ثراه، وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز أحد فرسان هذه المدرسة صاحب تجربة ثرية في إدارة شؤون الحكم منذ فترة طويلة، حيث تقلد الكثير من المناصب المهمة، وعمل جنبا إلى جنب مع والده وأخوته الملوك السابقين - يرحمهم الله - وإضافة إلى تمرسه في الحكم وإدارة الدولة، فهو يتمتع بشخصية متميزة من حيث الثقافة والاطلاع، والحضور الدائم، والرؤية الاستراتيجية الفاحصة، والقرب من المواطنين كافة، وأفراد الأسرة الحاكمة، ووقوفه على الأوضاع بدقة في الداخل والخارج، لذلك أتى الملك سلمان - يحفظه الله - على قدر في هذه المرحلة الدقيقة من عمر منطقة الخليج والمنطقة العربية برمتها.
أتى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى سدة الحكم والمنطقة تشهد متغيرات كثيرة في مقدمتها ما يحدث في اليمن الشقيق المجاور للمملكة، حيث تحولت اليمن إلى دولة فاشلة تعاني من فراغ دستوري وقانوني، بل غياب لمفهوم الدولة بالكامل ووسط ضعف اقتصادي، وتفشي حروب داخلية ونزاعات لا يعلم إلا الله كيف ومتى تنتهي، إضافة إلى ما تعانيه سوريا من حرب أهلية مزقت الشعب السوري وجعلته بين لاجئين وقتلى ومصابين ونظام يقتل ويهجر شعبه، والعراق الذي عانى كثيرا من الحكم الطائفي الذي انتهى به إلى دولة ممزقة يسيطر الإرهاب على كثير من أجزائها، والشعب العراقي يئن تحت وطأة الطائفية المقيتة والإرهاب البشع، والاستقطاب الإقليمي الذي أدى إلى ما عليه العراق الآن، وأيضا الوضع الهش في لبنان وغياب مفهوم الدولة بمعناها الكامل، وكل ذلك يأتي مع تداعيات ما يسمى ثورات الربيع العربي التي أدت إلى خروج الكثير من الدول العربية من منظومة العمل العربي المشترك، بل أدى إلى انكفائها وغياب بعضها، إضافة إلى موقف جماعات الإسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين التواقة إلى القفز على سفن السلطة حتى وإن غرقت الشعوب، وغير بعيد تأثير المواقف والسياسات التي تتبعها إيران في المنطقة فهي تسعى لأن تكون دولة نووية وما زالت تماطل في التوصل إلى اتفاق مع المجتمع الدولي في هذا الشأن، وتتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وتتبع علاقات غامضة مع دول الخليج وخصوصا المملكة العربية السعودية، ناهيكم عن احتلالها للجزر الإماراتية الـ3، كما أن المنطقة تعاني من موجات الإرهاب التي لن تتوقف، وإن كانت المملكة العربية السعودية نجحت نجاحا مبهرا في محاربة هذه الآفة لكن المملكة سوف تستمر في مواجهة هذا الخطر دون هوادة، كما يعد تراجع أسعار النفط إلى مستويات قياسية من التحديات التي تواجه المملكة أيضا.
ومن المعروف أن للسياسة السعودية ثوابت في العلاقات الاستراتيجية التي تهدف إلى رعاية مصالحها ومصالح دول الخليج والدول العربية، ودعم الاستقرار الإقليمي والدولي، وعليه أعتقد أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز سوف يدعم الوحدة الخليجية والتحول من «التعاون» إلى «الاتحاد» الذي سيدعم استقرار منطقة الخليج في مواجهة التحديات الدولية والإقليمية، ويعمل على توحيد جهودها وتعظيم دورها من أجل خدمة شعوبها، وكذلك العمل مع الأشقاء في دول الخليج على مساعدة اليمن للخروج من محنته الحالية، وأيضا العمل على إيجاد الحلول المناسبة للأوضاع في سوريا، والعراق، ومحاربة التطرف والإرهاب في المنطقة، والدفع بإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني وتحقيق السلام العادل والشامل، ودعم مصر وشعبها حتى تستكمل مراحل خريطة الطريق، ومراحل نهضتها وعودتها إلى سابق عهدها بالكامل، وسوف تعمل المملكة على استقرار أسواق النفط العالمية، وتستمر في استكمال ما دأبت عليه من إصلاح في الداخل، واستكمال مشاريع البنية التحتية العملاقة، والاستمرار في الحفاظ على معدلات النمو في إطار التنمية الشاملة الطموحة التي تهدف إلى استمرار رفاهية المواطن، ومحاربة الفقر والفساد، وتحقيق الشفافية وتكافؤ الفرص.
في اعتقادي أيضا أن الدور السعودي الذي سوف يتبناه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، هو ملء الفراغ الاستراتيجي الكبير في المنطقة خاصة في ظل ما يطلق عليه المشروعات البديلة، وهذا الفراغ الاستراتيجي في المنطقة الذي نتج لعدة أسباب منها: تراجع الدور الأميركي في المنطقة، وإيكال واشنطن مهمة القيام بهذا الدور إلى قوى غير قادرة على القيام بذلك وهي تركيا، إسرائيل، وإيران، مع استمرار حالة الضعف التي يعاني منها النظام العربي بعد ما يسمى ثورات الربيع العربي التي رافقها الاستقطاب الإقليمي والنشاطات الإرهابية، وضعف الدولة المركزية أو تراخي قبضتها في كثير من الدول العربي التي تعاني من الاضطرابات الأمنية والخلافات الطائفية والحروب الأهلية.
ولدى المملكة مقومات ملء هذا الفراغ الإقليمي منها المكانة الروحية والدينية، والدور الفاعل في قيادة العالم العربي، والقوة الاقتصادية الكبيرة، والثقل السياسي، والقدرات العسكرية والأمنية، إضافة إلى المساحة والموقع وغير ذلك من مقومات الدولة الرائدة والقيادية والمؤثرة، مع التزام المملكة بعدم التدخل في شؤون الآخرين ورفض تدخل الآخرين في شؤونها، ودورها المحوري في التنسيق مع القوى الإقليمية الكبرى المعتدلة، ومن بينها مصر ودول مجلس التعاون الخليجي من أجل تأمين المنطقة ومقدراتها وسلامة شعوبها وأراضيها.
كما أن المملكة مستمرة في تمسكها بمقومات الدولة الرائدة في المنطقة والذي يتجلى في نهجها المتمسك بالإسلام السمح المعتدل الوسطي الذي يقبل الآخر، ويقبل كل أتباع المذاهب الإسلامية، ويدعو إلى الحوار والتعاون مع كل أتباع الديانات السماوية والثقافات الوضعية، كما أن المملكة تبنت نهج نشر ثقافة التسامح ونبذ الكراهية والعنف والتطرف وقطعت شوطا بعيدا لتحقيق ذلك، إضافة إلى أن المملكة تتبنى اقتصادات السوق الحرة وهي عضو في مجموعة الـ20 الأغنى في العالم، وتعمل جاهدة على تحقيق الاستقرار في أسواق النفط خصوصا أن سياستها النفطية ترتكز على اعتبار النفط أداة للتنمية وليس ورقة سياسية.
كل ذلك يضع المملكة أمام مسؤولية ملء الفراغ الاستراتيجي التي بدأت تتشكل ملامحه في المنطقة، وأن المملكة جاهزة للاضطلاع بهذا الدور في هذه المرحلة التي أسس لها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - يرحمه الله - ويقودها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - يحفظه الله - من أجل تحقيق الاستقرار في هذه المنطقة المتوترة من العالم، وتحقيق المزيد من الرخاء والأمن والرفاهية لأبناء المملكة وشعوب دول الخليج والشعوب العربية.
*رئيس مركز الخليج للأبحاث
7:44 دقيقة
TT
الملك سلمان.. قيادة في مواجهة التحديات
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة