لم يمر وقت طويل قبل أن تصدر الحكومة الصينية، بنبرة مزجت بين الجدية والسخرية، تعليقاً على الفوضى التي اعتملت داخل مبنى الكابيتول الأميركي. وقالت وزارة الخارجية الصينية: «تأمل الصين أن ينعم الأميركيون بالسلام والاستقرار والأمن في أسرع وقت ممكن».
وبطبيعة الحال، فإنَّ السلام والاستقرار تبعاً للمعايير الصينية يتمثل في النمط الذي تتمخض عنه انتهاكات حقوق الإنسان على نطاق واسع، وقمع الحريات المدنية، والقمع المنهجي للأقليات، بل وحتى حملات التعقيم القسري على ما يبدو. مع ذلك، تثير شماتة بكين سؤالاً مهماً: كيف تؤثر الاضطرابات الداخلية المتعددة والحادة داخل الولايات المتحدة على سياستها الخارجية؟
بيد أن هذا ليس السؤال الأكثر أهمية، وإنما كيف يمكن وصول الولايات المتحدة إلى يوم التنصيب، ومن بعد ذلك معالجة الإخفاقات المتراكمة التي أوصلتها إلى هذه النقطة. ومع ذلك، فإن تقييم التداعيات الجيوسياسية أمر لا مفر منه، بالنظر إلى أن الضامن الأساسي للنظام الدولي يعاني اليوم من جائحة فيروس كورونا التي خرجت عن السيطرة، وتصاعد وتيرة العنف السياسي، وتراجع الالتزام بالمعايير الديمقراطية، بجانب اضطرابات محلية خطيرة أخرى. في الواقع على الرغم من أن الولايات المتحدة يجب عليها ترتيب أوضاعها في الداخل من أجل أن تكون فاعلة في الخارج، فإنه لا يجب عليها - وليست بحاجة - للانسحاب والانزواء بعيداً عن العالم لإنجاز ذلك.
الحقيقة أنه من المتعذر على أي مراقب جاد إنكار أن المكانة العالمية للولايات المتحدة تضررت بسبب حالة الخلل الوظيفي الداخلية التي تعانيها البلاد. وتكشف استطلاعات الرأي أن الحكم غير الليبرالي للرئيس دونالد ترمب والأسلوب الرديء الكارثي في التعامل مع جائحة فيروس «كوفيد - 19»، كانت لهما آثار مروعة على صورة الولايات المتحدة كمصدر إلهام في الخارج. وخلال السنوات المقبلة، أي دبلوماسي أميركي سيفكر في تقريع حاكم مستبد سيجد رئاسة ترمب تلقى في وجهه.
وبمقدور مثل هؤلاء الدبلوماسيين الأميركيين طرح رد منطقي مفاده أن المؤسسات الديمقراطية الأميركية صمدت، لأن معظم الموظفين العموميين ظل ولاؤهم للدستور، وليس للرئيس. ومع ذلك، فإن هذه بالتأكيد ليست الحجة المثالية لممثلي قوة ديمقراطية عظمى، لطالما طمحت لأن تكون نموذجاً لما ينبغي لأن يكون عليه شكل العالم.
علاوة على ذلك، فإن الأحداث الأخيرة تؤكد حقيقة استراتيجية مفادها أن القوة في الخارج في جوهرها انعكاس للقوة في الداخل. ورغم ما حدث، لا تزال الولايات المتحدة أكثر استقراراً وعدلاً وشمولاً عن المجتمع الروسي في ظل قيادة فلاديمير بوتين أو الصين في عهد شي جينبينغ، ما يمنحها ميزة تنافسية عميقة وطويلة الأجل. ومع ذلك، فإن عدم الاستقرار في السياسة الأميركية يؤدي بدوره إلى عدم الاستقرار على الصعيد الجيوسياسي الأميركي، سواء في شكل استقطاب داخلي ينتج عنه تغييرات مفاجئة من إدارة إلى أخرى، أو في شكل مجتمع يفتقر على نحو متزايد إلى معايير مشتركة لتقييم الحقيقة، ما سيخلق أمامه صعوبة في حشد وحدة صف أبنائه لخوض الصراعات الطويلة ضد الخصوم اللدودين. من جانبهما، يدرك كل من شي وبوتين ذلك الأمر، ولهذا السبب يسعيان إلى تحويل القضايا الخلافية داخل الولايات المتحدة وانقساماتها إلى أسلحة تفتك بالبلاد من خلال حملات التأثير، والمعلومات المضللة وغيرها من صور التدخل.
دفعت شدة المأزق الأميركي بعض المحللين إلى استنتاج مفاده أن واشنطن يجب أن تتراجع عن طموحاتها العالمية حتى تنتصر على شياطينها الداخليين. وكما عبرت إيما أشفورد في دورية «فورين بوليسي»، فإن «أهداف السياسة الخارجية الطموحة لا تتماشى على الإطلاق مع حقائق الخلل السياسي والاقتصادي المحلي داخل البلاد».
في الواقع، هذا طرح مضلل، فلا يوجد حليف حقيقي للولايات المتحدة يدعو إلى أن تدير واشنطن ظهرها للعالم (على الرغم من أن الكثيرين يساورهم القلق بالفعل بشأن ذلك)، ولسبب وجيه. ولا يبدو الأمر كما لو أن الحاجة إلى المشاركة الأميركية على الساحة الدولية أصبحت أقل إلحاحاً، وإنما على العكس فإنه مثلما كشفت جائحة فيروس «كوفيد - 19»، فإن البدائل المحتملة للقيادة الأميركية تدور حول انهيار التعاون الدولي في مجال مواجهة الأوبئة وقضايا أخرى، وحالة من الفراغ ستسارع قوى أخرى أقل انضباطاً وديمقراطية مثل الصين لملئه.
من جهته، حذر ريتشارد نيكسون - رئيس آخر حكم في وقت آخر من الاضطرابات الداخلية والجيوسياسية المقلقة - من أنه «إذا تراجعت الولايات المتحدة عن تحمل مسؤولية تعريف السلام والحرية في العالم... فسيعيش بقية العالم في رعب». وعلى الرغم من تجاوزات نيكسون نفسه، يبدو من غير المرجح بالفعل أن يكون عالم ما بعد الولايات المتحدة أكثر استقراراً أو اعتدالاً.
وتبدو الحجة الداعية للتمترس والانكفاء على الذات معيبة من نواحٍ أخرى كذلك. ما لم تكن السياسة الخارجية سبباً رئيسياً للانقسامات وشعور البعض بالسخط داخل الولايات المتحدة، كما كان الحال خلال حرب فيتنام مثلاً، فإنه فليس من الواضح كيف يمكن لسياسة خارجية أقل طموحاً المعاونة في معالجة المشكلات الداخلية. في الواقع، لم يمكّن الانسحاب بعيداً عن الشؤون الاستراتيجية لأوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، الولايات المتحدة من تجنب موجة من النزعات القومية والعنصرية في عشرينات القرن الماضي أو الاستقطاب العميق خلال فترة الكساد الكبير.
ويمكن للمرء أن يدفع بحجة منطقية مفادها أن العلاقة تسير في واقع الأمر في الاتجاه الآخر. خلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، ساعد التزام الولايات المتحدة بمكافحة النفوذ السوفياتي عالمياً في تحفيزها على معالجة أسوأ خطيئة محلية لديها: ممارسات الفصل العنصري التي ترعاها الدولة.
وأخيراً، لم يكن الكمال المحلي أبداً شرطاً مسبقاً للعمل الدولي الهادف. لقد تولت الولايات المتحدة حماية العالم من الاستبداد العدواني خلال حربين عالميتين على الرغم من أنها كانت مجتمعاً معيباً للغاية ولم يرقَ إلى مستوى المثل العليا التي أرساها الآباء المؤسسون. ونجحت الولايات المتحدة في احتواء الاتحاد السوفياتي، وبالتالي دعمت ازدهاراً غير مسبوق للديمقراطية في جميع أنحاء العالم، بينما كانت تناضل مع قضايا صعبة تتنوع ما بين الظلم العنصري إلى الاضطرابات الاقتصادية إلى الخلافات السياسية المريرة. ولو أصر الأميركيون بدلاً من ذلك على حل المشكلات المحلية قبل التحرك دولياً، لكانت النتيجة كارثة تضرب الليبرالية في كل مكان - بما في ذلك في نهاية الأمر داخل الولايات المتحدة ذاتها.
اليوم، يجب أن تخرج الولايات المتحدة من عهد ترمب يملؤها شعور أكبر بالتواضع وإدراك لعيوبها والمخاطر التي تشكلها هذه العيوب فيما يخص دبلوماسيتها وديمقراطيتها. ومع ذلك، لا يمكنها الوقوع في اليأس بشأن قدرتها على تشكيل عالم صحي، وإنما يتعين عليها النظر إلى المحاسبة والمساءلة المحلية التي تحتاج إليها اليوم باعتبارها مكملة - وليست بديلة - للقيادة الأميركية التي لا يزال العالم بحاجة إليها.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»
8:2 دقيقه
TT
الولايات المتحدة لن تتعافى بالانعزال عن العالم
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة