علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

إنصافاً لعمر فروخ من اتهامٍ ركيك

كتاب محمد أسد «الإسلام على مفترق الطرق»، في ترجمته إلى اللغة العربية التي قام بها عمر فروخ منذ عام 1946 إلى أن ترجم الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين عام 2009، طبعته المنقحة الصادرة باللغة الإنجليزية عام 1982، كتاب متعدد الطبعات، وإذا ما تجاوزنا عقد الخمسينات الذي طبع الكتاب فيه طبعة واحدة، فإننا نجد أنه في العقد الواحد طبع أكثر من مرة، فلماذا لم يكتب الشيخ الحصين إيضاحاً بأن الطبعة التي ترجمها تختلف بعض الشيء عن الطبعة الأصلية التي ترجمها عمر فروخ عام 1946؟!
هناك سببان لذلك.
الأول، لأن محمد أسد لم يقدم إيضاحاً كهذا في طبعة عام 1982، باللغة الإنجليزية! أما محمد أسد فإنه لم يقدم مثل هذا الإيضاح، لأن الكتاب - وهو كتابه الأول - استقبل بحفاوة كبيرة عند مسلمي القارة الهندية الذين قرأوه بلغته الأصلية الإنجليزية، واستقبل بمثلها عند أهل الدين في العالم العربي على مختلف تياراتهم وتوجهاتهم، الذين قرأوه بلغته المترجمة إلى العربية، وكان له أثر جلي على عدد من المؤلفات الإسلامية التي ظهرت بعد كتابه في هذين العالمين، فشق عليه في طبعة الكتاب المنقحة أن يصارحهم بأن مؤلف الكتاب لم يعد محمد أسد الأول، بل غدا إسلامياً عصرياً، وهو الذي في كتابه هذا العزيز عليه جداً، كان قد تصدى في أول ثلاثينات القرن الماضي بنزعة جدالية لتفنيد مقولات الإسلام العصري.
الآخر، أن الإسلاميين العرب الذين عرفوا بخبر تحوله إلى الإسلام العصري، وذلك قبل أن يصدر طبعة كتابه المنقحة بسنوات، ساءهم هذا الخبر، فكانوا كمن مُني بغصة لا تساغ، لأن محمد أسد هو مؤلف كتابهم الإسلامي الأول، وذلك حينما تُرجم إلى اللغة العربية في طبعته الأولى، في العام المشار إليه سلفاً. وهذا ما جعلهم يعتِّمون على خبر تحوله عن اتجاهه الأول، الاتجاه الأصولي!
شذ عن هذا الاتفاق بسطامي محمد سعيد في رسالته «مفهوم تجديد الدين»، التي نال عليها درجة الماجستير من قسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية بجامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً)، وأشرف عليها الدكتور جعفر شيخ إدريس، يوم الاثنين 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1981، الذي بعد أن أجزل الثناء على كتاب محمد أسد (الإسلام على مفترق الطرق) قال: «ولكن كتب المؤلف الأخرى لا تعطي الانطباع الذي يعطيه كتابه السالف، وإذا استبعد كتابه (الطريق إلى مكة) الذي هو قصة أدبية رائعة عن الثلاثين سنة الأولى من حياته واعتناقه الإسلام، ولا يعد كتاباً فكرياً، فإن كتبه الأخرى، تنضح بفكر عصراني خالص، حتى أن المرء لا يجانب الصواب كثيراً إذا وصفه - وبخاصة في ترجمته لمعاني القرآن والحواشي والهوامش التي ضمتها الترجمة - بأنه نسخة أوربية السيد خان، أعظم مفكري العصرانية المسلمين. ولا غرو فإنه لتأثره بالمادية الغربية التي لا تؤمن بما وراء المحسوس المشاهد، لم يستطع أن يتخلص من بقاياه الجاهلية، فأقبل في الإسلام على العصرانية يؤول ويفسر كل شيء في حدود عالم الحس وأذواق الغرب. ويقدم لنا محمد أسد - تماماً كالسيد خان - نموذجاً متكاملاً للفكر العصراني الإسلامي، إذ لم يقتصر فكره على دائرة واحدة من دوائر الإسلام، بل شمل العقائد والتفسير والحديث والفقه». (الرسالة طبعت في كتاب صادر عن «دار الدعوة» بالكويت عام 1984. راجع ما قاله عن محمد أسد في هذا الكتاب من ص 153 إلى ص 161).
بصرف النظر عن غلو أحكام طالب الدراسات العليا، بسطامي محمد سعيد، الذي سيغدو فيما بعد رئيساً لقسم الدراسات الإسلامية في جامعة برمنغهام لفترة، بعد أن نال درجة الدكتوراه من جامعة أدنبره عن رسالته «الحاكمية في التصور الإسلامي»، على المنحى العقلاني الذي تحول محمد أسد إليه، فإنه هو والمشرف على رسالته، جعفر شيخ إدريس، يمثلان رأي أقلية قليلة من الإسلاميين التي لا تجد في نفسها حرجاً ثقافياً وآيديولوجياً من الهجوم الديني على تحول محمد أسد الإسلامي الجديد.
الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين ليس مع هذا الرأي الإسلامي العربي الأقلوي، وإنما هو مع رأي أكثرية الإسلاميين العرب التي اختارت التعتيم على خبر تحوله.
نعود بعد هذا الاستطراد إلى مناقشة الدكتور حمزة بن قبلان المزيني.
في الحكاية التي رواها والتي مفادها أنه عثر على العبارة المنسوبة إلى غلادستون في كلام موضوع بين معقوفتين في متن كتاب «الإسلام على مفترق الطرق» المترجم إلى اللغة العربية. فلم تطمئن نفسه إلى أن محمد أسد يمكن أن ينسبها إلى غلادستون. فرجع إلى كتاب محمد أسد بلغته الإنجليزية، فلم يجدها فيه. ثم عاد مرة أخرى إلى الكتاب المترجم. وقرأ في أول الكتاب إيضاحاً من المترجم عمر فروخ بأن الكلام الموجود في متن الكتاب، والموضوع بين معقوفتين، هو تفاسيره وتعاليقه هو لا المؤلف.
نجده وبعد أن اتضح له هذا الأمر على حقيقته، أجاز لنفسه أن يتهم مترجم الكتاب عمر فروخ بالغش في الترجمة!
ولشدة تحامل الدكتور حمزة على عمر فروخ أقحم مقولة «الترجمة خيانة» أو «المترجم خائن» في غير موضعها وفي غير سياقها.
يقول الدكتور حمزة: «فليست العبارة المنسوبة إلى غلادستون في ترجمة عمر فروخ ما كتبه محمد أسد، إذن، بل هي من إضافات المترجم، وهو لم ينسبها إلى مصدر! وهذا التصرف أصدق دليل على (خيانة) الترجمة!».
إن الدكتور حمزة يتهم عمر فروخ مرة ثانية بالتدليس والتزوير، مع أن معنى المقولة التي أصلها مثلٌ إيطالي، والتي هي غير متفق عليها بين بعض المترجمين، أن المترجم الذي ينقل نصاً من لغة إلى أخرى، هو مضطر ومجبر ألاّ يكون أميناً ووفياً مع النص الذي ينقله، كما هو في لغته الأصلية. وهي تقال في صدد ترجمة الأدب، خصوصاً الشعر.
يقول عمر فروخ: «نقل كتب العلم على العلماء هيّن، لأن العالم ينقل كتباً يعرف موضوعاتها ومصطلحاتها ولا يتكلف في النقل: إنه يريد نقل المعاني في أبسط صورها. أما نقل الأدب فإنه صعب، لأن الأدب الجيد يقوم على متانة التعبير وعلى الصور البلاغية من تشابيه واستعارات وكنايات، وهذه تختلف في اللغات المختلفة اختلافاً كبيراً» (راجع بحثه المفيد الذي تضمن حديثاً عن بعض تجاربه في الترجمة «الترجمة أو نقل الكلام من لغة إلى أخرى» المنشور في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ع3 الأول من يوليو/ تموز 1979).
وإذا ما تجاوزنا أن الدكتور حمزة فهم تلك المقولة فهماً حرفياً خاطئاً، فاتهامه المشين لعمر فروخ هو اتهام ركيك، لأن عمر فروخ في أول صفحة من ترجمته للكتاب نبّه إلى أن التفاسير والتعاليق المحصورة بين معقوفتين هي من كلامه هو لا من كلام المؤلف محمد أسد. والدكتور حمزة - بحسب الحكاية التي رواها - عرف أنها من إضافاته بعد أن عاد إلى ترجمة عمر فروخ للكتاب مرة أخرى، وقرأ تلك الصفحة.
يصف الدكتور حمزة ما فعله الدكتور عمر فروخ؛ وضع تفاسير وتعاليقه في المتن لا في الهامش، بالتصرف الغريب الذي لا يقره الباحثون والمترجمون. وليسمح لي الدكتور حمزة الذي هو أعلم مني بأصول وقواعد وتقاليد الترجمة، أن أشكك في وجود هذا المبدأ على ضوء تجارب عمر فروخ في الترجمة.
هناك كتاب اسمه «الشرق الأوسط في مؤلفات الأميركيين» مؤلفوه هم: جورج سارتون، ريتشادر إتنغهاوزن، كوينسي رايت، فيلكس بوشنسكي، وليام ديمانود، روجر سولتو. أشرف على جمعه وتحريره مجيد خوري. وراجعه محمد مصطفى زيادة. وترجمه إلى العربية عمر فروخ ومحمد مصطفى زيادة وجعفر خياط. هذا الكتاب نشر بالاشتراك مع «مؤسسة فرانكلين» المساهمة للطباعة والنشر، نيويورك - القاهرة، في عام 1953.
في هذا الكتاب ترجم عمر فروخ بحثين، يهمنا هنا البحث الأول، وهو «حضانة الشرق الأوسط للثقافة الغربية» لجورج سارتون المشهور بمؤلفه عن تاريخ العلم.
ومما قاله عمر فروخ في مقدمته للبحث - وهو يشرح طريقته في الترجمة: «ثم إن الكتاب في الأصل يضم حواشي تفسيرية كثيرة، وهذه تمنع القراءة السائرة، ومن أجل ذلك عمدت إلى إدخال الحواشي في المتن. ورجعت في ذلك كله إلى رأي الدكتور سارتون، فلم يجد ضرراً فيما فعلته». وفي خاتمة مقدمته قال: «وبعد، فإن عليّ تبعة كل ما في هذا النص العربي، مع العلم بأن الدكتور سارتون قرأه وأجازه».
فإذا كان المبدأ الذي أومأ الدكتور حمزة إليه موجوداً، فلماذا لم يعترض جورج سارتون ومجيد خدوري ومحمد مصطفى زيادة ومؤسسة فرانكلين المساهمة للطباعة والنشر على طريقته في الترجمة؟
هذا البحث المنشور في هذا الكتاب، كان عمر فروخ قد أصدره في كتيب عام 1952، في دار المعارف ببيروت تحت عنوان «الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط». ويختلف هذا الكتيب في مقدمته عن مقدمة البحث المنشور في ذلك الكتاب، أنه قدم فيها تعريفاً بجورج سارتون.
وهناك كتاب ثان اسمه «الطريق إلى النجوم» مؤلفه فان دررَيت وللي، رئيس المرصد الفلكي في غرينيتش، نقله عمر فروخ إلى العربية عام 1964. والترجمة صادرة عن «دار العلم للملايين».
يقول عمر فروخ في ترجمته لهذا الكتاب: «فقد حرصت على أن أميّع عدداً من الجمل المركزة أو أوسّع بعض الجمل الموجزة بقدر استطاعتي. وكنت قد استأذنت المؤلف في أن أفعل ذلك، ثم إنني قد حصرت كل ما جئت به من التمييع والتوسيع بين أهلّة».
ويقول أيضاً: «من أجل ذلك شرحت بعض هذه، وعرّفت ببعض أولئك على وجه التقريب وعلى غاية من الإيجاز، إما في المتن بين أهلة أو في الحواشي. إن جميع الحواشي في هذا الكتاب لي إلاّ حاشية واحدة سأشير إليها في مكانها».
ومما يستوجب ذكره أن المؤلف الذي لم يعترض على طريقة عمر فروخ في الترجمة، كتب مقدمة قصيرة للطبعة العربية بتاريخ 12-11-1963.
المثال الأخير هو كتاب «الإسلام منهج الحياة» لفيليب حتي، الذي ترجمه عمر فروخ إلى العربية عام 1972.
في أول صفحة من الجزء الأول من هذا الكتاب، قال عمر فروخ في هامشها: «في أثناء نقل هذا الكتاب بدا لي أن زيادة عدد من التعابير والجمل التوضيحية أو المألوفة أمر ضرورة للقارئ العربي. ولما اطلع المؤلف على ذلك رغب في حصر ما لا بد منه بين أهلّة معقوفة ليدل الهلالان المعقوفان على أن ما بينهما منّي وليس منه. ثم إن عدداً من التعابير والجمل التفسيرية التي بين أهلّة منحنية هو منّي أيضاً». وللحديث بقية.