أندرياس كلوث
خدمة «بلومبيرغ»
TT

مآل الأمور كلها بيد بوتين في روسيا البيضاء

من الصعوبة للغاية التفكير في أي أمر هو أكثر خطورة من أن يمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يد المساعدة إليك، حتى تتمكن بسهولة من حل المشكلات التي تبقيك متوتراً ومنشغلاً طوال الوقت. بيد أن هذا بالضبط ما تعهد به السيد فلاديمير بوتين لنظيره ألكسندر لوكاشينكو رئيس جمهورية روسيا البيضاء صاحب القبضة المرتعشة والحكومة المحاصرة على نحو واضح.
وعلى اعتبار روسيا البيضاء من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وتتخذ موضعاً جغرافياً عسيراً ما بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي من جهة، والاتحاد الروسي الحالي من جهة أخرى، فهي بلاد تكافح أيما كفاح من أجل حريتها، ومن الجدير بالسياق الراهن أن نأخذ في اعتبارنا الشخصية التي بيدها حق تقرير مصير روسيا البيضاء في خاتمة المطاف.
وتلك الشخصية ليست الرئيس ألكسندر لوكاشينكو على أي حال. فمنذ عام 1994 والرجل يجرب وينفذ، ويعاود تطبيق كل حيلة من حيل السياسة من أجل ضمان البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة - من التلاعب بالنظام الحاكم، وشن الحملات لإخماد المظاهرات التي تندلع بين فترة وأخرى. بيد أنه يدرك تماماً الآن أن اللعبة قد أوشكت على الانتهاء. وعلى الرغم من مزاعمه بأنه قد حقق الفوز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة - التي أجريت في 9 أغسطس (آب) الماضي - بنسبة بلغت 80 في المائة من مجموع الأصوات، فمن الواضح تماماً لمن يتابع الأوضاع هناك أنه قد خسر تلك الجولة. إذ يبدو أن زبانيته قد فشلوا هذه المرة في ترويع المواطنين كما كانوا يفعلون من قبل. وبدلاً من ذلك، واصل عدد لا يحصى من نساء البلاد التظاهر وحشد المسيرات وهن يرتدين الألبسة البيضاء - وهو اللون الذي يعكس حالة المقاومة في البلاد - مع إلهام كثير من المواطنين الآخرين للنهوض والانضمام إليهن.
كما لا يمكننا الوثوق في أن الناشطة الحقوقية سفيتلانا تيكانوفسكايا هي الشخصية القادرة على تقرير مصير ومستقبل روسيا البيضاء. بحكم الأمر الواقع، فإنها تعتبر زعيمة المعارضة التي فازت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، غير أنها - على ما يبدو - قد تم نفيها إلى دولة ليتوانيا المجاورة، وذلك على الأرجح من أجل ضمان سلامة أطفالها الذين كانت قد أخرجتهم من روسيا البيضاء في وقت سابق. وعلى اعتبارها شخصية ذات زخم أخلاقي رفيع، يمكنها تحفيز وإلهام المواطنين في بلادها لمواصلة النضال ومقاومة الأوضاع الراهنة المزرية في البلاد. وإذا نجحت يمكن للسيدة سفيتلانا تيكانوفسكايا وقتذاك العودة لإجراء انتخابات جديدة تتسم بالحرية والنزاهة. بيد أنها لا تستعين بالقوة الصارمة اللازمة من أجل جعل تحرير البلاد أمراً موثوقاً منه ومستداماً.
وإنني أرى أن الشخصية صاحبة الكلمة الأخيرة في تلك المجريات هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومن المؤلم للغاية الاعتراف بتلك الحقيقة الواضحة في الأسبوع نفسه الذي يهتف العالم فيه لأبناء ومواطني روسيا البيضاء وتشجيعهم على مواصلة النضال والمقاومة، غير أن الإقرار بخلاف ذلك سوف يكون من قبيل النفاق وخداع الذات.
كانت خطوات وقرارات فلاديمير بوتين دائماً ما تستند إلى أمرين مهمين للغاية: زيادة سلطاته الشخصية مع إعادة تجميع العالم الروسي القديم الذي تفككت أوصاله إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، فيما يعد أكبر كارثة جيو سياسية شهدها القرن العشرين بأكمله بالنسبة إلى الرئيس الروسي. ومن وجهة نظره الخاصة، واصل الغرب - ممثلاً في منظمة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي - التعدي في تؤدة وثبات على مجال النفوذ الروسي، ولا بدَّ من التصدي لذلك والحيلولة دون استمراره بأي وسيلة.
لهذا السبب تحديداً ظلَّ الرئيس فلاديمير بوتين خصماً لدوداً لكل أشكال ثورات التحرر الملونة التي اندلعت في بلدان ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي بدأت من دولة جورجيا في عام 2003. وهو لا يتحمل أبداً السماح للديمقراطية بالظهور أو التمدد في بلدان أوروبا الشرقية أو في إقليم جنوب القوقاز، أو التمتع بالحرية السياسية والازدهار الاقتصادي والتحول فيما بعد لتأييد الاتحاد الأوروبي، فإنَّ ذلك سوف يكون على حساب فرض السيطرة الروسية - وأعني بسط سيطرته الشخصية - على الزعامة الأوراسية.
وكانت النتيجة المتوقعة بروز حفنة (حزام) من البلدان الفاشلة سياسياً والمنهكة اقتصادياً في تلك المنطقة. فهناك حالة من الصراعات المتجمدة في كل من جورجيا ومولدوفا، حيث يواصل فلاديمير بوتين التدخل وفرض السيطرة. ولدينا أيضاً الحرب المشتعلة داخل أوكرانيا المجاورة، تلك التي قام شعبها بطرد حاكمها الموالي تماماً للكرملين كي تتحول البلاد إلى الديمقراطية واعتماد نمط الحياة الغربي، فما كان من الرئيس الروسي إلا أن قام بضم شبه جزيرة القرم، ثم التسلل إلى شرق أوكرانيا عن طريق إشعال حرب انفصالية متنازعة الأهداف ومستمرة حتى يومنا هذا.
ومن غير المعقول بكل بساطة أن يقف الرئيس فلاديمير بوتين مكتوف الأيدي، وهو يشاهد روسيا البيضاء تنتفض من أجل الحرية والديمقراطية. فإنه يعتبر لغة تلك البلاد، وثقافتها، وهويتها من العلاقات الواهنة الضعيفة بالنسبة إلى روسيا، تماماً كما هي رؤيته حيال أوكرانيا. كما أنه تساوره مشاعر تاريخية قوية بحاجة بلاده إلى روسيا البيضاء، لكي تقوم مقام المنطقة العازلة بينه وبين أوروبا الغربية - تلك البلاد التي مرَّت عليها من قبل جيوش نابليون الفرنسية ثم جيوش هتلر النازية في طريقها إلى غزو روسيا.
لكن روسيا البيضاء تحتل في ذهن فلاديمير بوتين - ومخيلته المناوئة لكل ما هو تحرري أو وحدوي أو انفصالي - مكاناً عميقاً للغاية. فهي المنطلق الذي طالما رغب أن يبدأ منه مسيرته لإعادة توحيد العالم الروسي القديم، استناداً إلى مخطط يعود إلى 21 عاماً يتمحور حول دمج روسيا وروسيا البيضاء في دولة اتحادية واحدة، تحت سلطان رجل الكرملين الأول من دون منازع.
ومع احتلال هذا الهدف مكاناً كبيراً وبارزاً في مخيلة الرجل، كثيراً ما أثار ألكسندر لوكاشينكو حفيظة فلاديمير بوتين منذ فترة طويلة. فلقد كان ذلك الرئيس البيلاروسي الموالي تماماً للكرملين يتحرك بخطوات بطيئة للغاية على مسار الاندماج الروسي الكبير المشار إليه آنفاً. ويعتبره بوتين شخصية متوسطة الأداء كان الغرض من بقائه في منصبه هو الحيلولة دون التحول الديمقراطي في بلاده بكل وسيلة ممكنة. فإذا عجز لوكاشينكو عن مجرد القيام بتلك الوظيفة، فسوف يُسقطه فلاديمير بوتين من عليائه في وقت وجيز للغاية.
لا يعرف أحد ما الذي سوف يحدث بعد ذلك. فلقد لمح بوتين ولوكاشينكو عبر التصريحات الصحافية، إلى أن الاحتجاجات الداخلية المندلعة في روسيا البيضاء هي من تحريض الغرب، وهذا من الأكليشيهات المعهودة في الدعاية الروسية في مثل تلك الظروف. والمثير للسخرية في الأمر، أنهما يقترحان أن يقوم حلف شمال الأطلسي بتسيير القوات وحشدها على الحدود الغربية المتاخمة لروسيا البيضاء، وذلك كي يمنحا لنفسيهما الذريعة المطلوبة لنشر القوات العسكرية المماثلة داخل البلاد، ثم ينطلق ألكسندر لوكاشينكو إلى الكرملين طالباً الغوث والمعاونة من فلاديمير بوتين، ليعلن الأخير قيام الدولة الاتحادية المنشودة في خاتمة المطاف!
لكن، إن تمكن الشعب البيلاروسي من إنها حكم ألكسندر لوكاشينكو في وقت مبكر، فربما يُضطر فلاديمير بوتين حينذاك للجوء إلى أسلوب اللعب الذي مارسه من قبل في أوكرانيا. وذلك عن طريق البعث بالمرتزقة الروس الذين يرتدون الملابس العسكرية غير المميزة إلى داخل البلاد، ثم يقوم بإغراق وسائل الإعلام الداخلية والخارجية بالمعلومات المزيفة المضللة، أو ربما يقطع إمدادات النفط والغاز الطبيعي عن الشعب في روسيا البيضاء، أو النزوع إلى التدخل العسكري المباشر بكل يسر وبساطة. ولن يمنعه مانع من قول أو فعل يصدر عن الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة.
لقد فرضت البلدان الغربية المعنية بالفعل العقوبات الاقتصادية على الحكومة الروسية، منذ إقدام الكرملين على ضم شبه جزيرة القرم. وإن إضافة المزيد إلى حزمة تلك العقوبات لن يثير حفيظة القيصر الروسي الحالي في شيء. وفي خاتمة الأمر، يدرك فلاديمير بوتين تماماً أن حلف شمال الأطلسي لن يُقدم أبداً على تحريك القوات والدخول في حرب مفتوحة، من أجل روسيا البيضاء، تماماً كما لم يفعل في السابق من أجل أوكرانيا.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»