أسفر الحريق الذي لحق بالسفينة الهجومية البرمائية الأميركية «يو إس إس بونوم ريتشارد» لأكثر من أربعة أيام بدءاً من 12 يوليو (تموز) الجاري عن تدمير السفينة التي تقدر قيمتها بنحو 4 مليارات دولار، فضلاً عن إصابة أكثر من 70 بحاراً ورجال الإطفاء المدنيين. وكانت سحب الدخان التي خيّمت على أجواء ميناء سان دييغو ووسط المدينة لعدة أيام بعد الحريق، رمزاً واضحاً للحالة المزرية التي تكتنف القوات البحرية الأميركية في أرجاء العالم كافة في الآونة الأخيرة.
كما تعيد هذه الحادثة المؤسفة إلى الأذهان درساً من دروس التاريخ. في العديد من المناصب التي توليتها خلال مسيرة خدمتي في القوات البحرية، كنت دائماً أحتفظ بصورة للسفينة الحربية الأميركية القديمة «يو إس إس مين» على جدار مكتبي أينما حللت. وهي صورة تعكس السفينة الحربية في أوائل عام 1898 في ميناء هافانا الكوبية – قبل لحظات قليلة من انفجارها بالقرب من المرساة ثم غرقها، مما أسفر عن مصرع المئات من البحارة كانوا على متنها. وكانت تلك الحادثة المريعة من القضايا الشهيرة للغاية التي أدَّت إلى نشوب الحرب الإسبانية الأميركية.
وكان أفراد القوات البحرية الذين يعلمون قصة السفينة الحربية «يو إس إس مين» جيداً يأتون إلى مكتبي لسؤالي عن سر احتفاظي بصورة لتلك السفينة المدمَّرة، والغارقة على الجدار أمامي طيلة الوقت. ولماذا لا أضع صورة حاملة الطائرات «يو إس إس إنتربرايز»، وهي السفينة الكبيرة في المجموعة البحرية الضاربة التي كنت أقودها بنفسي؟ أو ربما صورة المدمرة «يو إس إس باري»، والتي كانت أولى السفن الحربية تحت قيادتي من قبل؟ وكان السبب ذا شقين:
أولاً، كانت تلك الصورة تذكّرني دائماً بإمكانية أن تنفجر السفينة الحربية التي أقودها بنفسي في أي لحظة، وبالتالي لا بد من ضرورة وجود الخطة البديلة الجاهزة على الدوام. ثانياً، قبل الاندفاع إلى إصدار الأحكام – كما فعلت الولايات المتحدة قديماً في شن الحرب الإسبانية الأميركية – علينا التأكد أولاً من عرض الحقائق بأكملها بصورة صحيحة. بعد فترة طويلة للغاية من غرق السفينة «يو إس إس مين»، اتضح أن انفجار السفينة كان داخلياً وليس بسبب هجوم خارجي. وأود القول إن وضع صورة للسفينة البرمائية المحترقة «يو إس إس بونوم ريتشارد» على الجدار لدى عدد قليل من قادة السفن الحربية الأميركية حالياً، سوف يكون له مغزاه الواضح.
إننا لا نعلم حتى الآن الأسباب وراء اندلاع الحريق في السفينة في ميناء سان دييغو، والذي من الممكن أن يكون قد بدأ في الجزء الداخلي العميق من بدن السفينة أثناء رسوّها في الميناء لإجراء الإصلاحات الشاملة. كان هناك 20% فقط من طاقم السفينة «طاقم الواجبات المباشرة» على متنها في صباح ذلك اليوم. وهذا من أسوأ الأوقات قاطبة التي يمكن أن يندلع فيها الحريق، بسبب وجود عدد قليل للغاية من البحارة على متن السفينة لمقاومة النيران (على الرغم من أن كل بحار هو رجل إطفاء مدرب على التعامل مع النيران).
كانت السنوات القليلة الماضية من أسوأ السنوات التي مرّت على القوات البحرية الأميركية. فلقد بلغت سلسلة فضائح الفساد أعلى المستويات والأنساق في القيادة، وأسفرت عن تجريم العشرات من كبار الضباط، فضلاً عن إرسال حفنة منهم إلى السجن في قضية «فات ليونارد» الشهيرة. ودخلت مدمرتان كبيرتان - هما المدمرة «ماكين» والمدمرة «فيتزجيرالد» – في تصادمات مميتة أدَّت إلى مصرع 17 بحاراً مع مئات الملايين من الدولارات في تكاليف الإصلاح. كما أقيمت محاكمة خاطئة لمجرم الحرب المجند المتهم إيدي غالاغير من القوات الخاصة البحرية، والتي أسفرت في النهاية عن قرار بفصل وزير القوات البحرية ريتشارد سبنسر.
ثم ثارت حالة من الجدل بشأن حاملة الطائرات النووية «تيودور روزفلت»، والتي تعرضت لحالات شديدة من الإصابة بعدوى فيروس «كورونا المستجد» بين طاقم الحاملة، مما أدَّى إلى إيقافها عن الخدمة المباشرة لمدة شهرين كاملين. ثم توفي أحد أفراد طاقم الحاملة، وصدر القرار بإعفاء قائد الحاملة من منصبه، فضلاً عن الضغوط التي أسفرت عن استقالة وزير البحرية بالإنابة في تلك الحادثة.
فما الذي تحتاج القوات البحرية الأميركية إليه من أجل المضي قدماً في مسيرتها؟ وما الدروس التي يمكن أن نتعلمها على نطاق واسع من واقع هذه الكوارث المتعاقبة؟
الدرس الأول والأكثر وضوحاً يتعلق بضرورة استناد القوات البحرية إلى الحقائق فقط الناجمة عن التحقيقات في حادثة حريق السفينة البرمائية «يو إس إس بونوم ريتشارد» مع التطبيق الصارم للعقوبات ذات الصلة. إذ كانت التحقيقات الخاصة بحادثة تصادم المدمرتين الأميركيتين في عام 2017 شاملة وقاسية بصورة كبيرة. وفي جوهر الأمر، صدرت القرارات من القيادة بفصل أو إيقاف الضباط من مختلف المستويات على تسلسل القيادة، من قادة أبراج المدمرتين وحتى الأدميرال الكبير ذي الأربع نجوم، الذي يشغل منصب قائد أسطول المحيط الهادئ. لقد كانت قرارات مؤلمة للغاية، بيد أنها كانت القرارات السليمة التي ينبغي اتخاذها في تلك المواقف.
ومنذ ذلك الحين، كانت التحقيقات البحرية متفاوتة من حيث الجودة والمساءلة. وكان ينبغي للأدميرال مايك غيلداي – القائد الجديد نسبياً للعمليات البحرية (وهو يمثل أعلى رتبة في القوات البحرية) أن يتولى المسؤولية. وكان الأدميرال غيلداي قد قام بزيارة السفينة «يو إس إس بونوم ريتشارد» في ميناء سان دييغو، وكان يُعد عنصراً مهماً للغاية من فريق العمل معي في قوات حلف شمال الأطلسي قبل عقد من الزمان، كما أنه يملك مزيجاً خاصاً من الرؤية الكبيرة مع التواضع الجم الفريد.
والدرس الثاني المستفاد يكمن في الحاجة إلى التوقف مع إمعان النظر في تسلسل الأحداث خلال السنوات المتعددة السابقة مع استعراض ثقافة القوات البحرية. ولقد تعهد وزير القوات البحرية الجديد الأدميرال السابق كينيث بريثوايت القيام بذلك تماماً خلال جلسات الاستماع للموافقة على تعيينه في منصبه. وتعد الثقافة البحرية من أصعب وأكثر المكونات تعقيداً في أي منظمة كبيرة – ذلك لأنها تتجاوز مجال اللوائح، والإجراءات، والقواعد، والتكتيكات المكتوبة. بل إنها تتخذ محل القلب من صميم معتقدات البحارة في الولايات المتحدة.
يمكن تفسير كل كارثة من الكوارث الأخيرة على نحو منفرد. بيد أن الصورة الكبيرة هي أكثر وضوحاً من أجزائها المتناثرة. وبالنظر إلى الوراء، كما يأمل المرء، يمكن النظر إلى حريق السفينة البرمائية «يو إس إس بونوم ريتشارد» على أنها نقطة تحول مهمة للغاية بالنسبة إلى القوات البحرية الأميركية. ومن واقع أن الأبواب الكبيرة تتأرجح على المفصلات الصغيرة، لا يمكن اعتبار حريق تلك السفينة من الحوادث الصغيرة بأي حال من الأحوال.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»