يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

«آيا صوفيا»: الانتهازية المؤدلجة ليست من الإسلام

في التأصيل لما قام به إردوغان يجب ألا نتوقف عند القراءة السياسية لما فعله والتي حاولتُ التركيز عليها في المقال السابق، بل يجب أن يشمل ذلك بيان أن ما فعله وإنْ كان دافعه يعبّر عن حالة اليأس من الفشل الذريع على مستوى الدبلوماسية السياسية، ومحاولة للتسويق عبر خلق الأزمات وتصديرها... لا يمثل موقفاً إسلامياً، بل على العكس تماماً هذا السلوك منافٍ لمسيرة الإسلام المتسامحة عبر التاريخ في الحفاظ على معابد الأديان الأخرى، والموقف الإيجابي من الآثار الذي كان سلوك السلف والمسلمين الأوائل في الفتوحات التي أبقت الأيقونات الثقافية للحضارات الأخرى.
لم يتخذ الإسلام موقفاً سلبياً من الآثار بل على العكس تم اعتبارها عبرة للناس في أكثر من موضع في القرآن الكريم والسنة النبوية وأيضاً في تصرف المسلمين الأوائل الذين أبقوا على المعالم الحضارية والتراثية للأديان الأخرى. ويمكن القول إن التفريق بين الآثار وقيمتها التاريخية وبين عبادة الأوثان كان واضحاً في التصور الإسلامي للآثار والموقف منها: تحطيم الأوثان في مرحلة تأسس الإسلام من أجل مقصد عظيم وهو أن يعبد الله وحده، لكنّ الآثار الحضارية لم تكن محل عبادة، بل عُدّت من علوم الآخرين ومعارفهم مما فيه عبرة وتفكّر وفوائد متعددة جعلت من الصحابة ومن جاء بعدهم عندما فتحوا البلدان يحافظون عليها، بل يستفيدون منها في العلوم والتأريخ ومعرفة فنون الأقدمين في الهندسة والعمارة.
من جانب آخر فإن ترك هذه الآثار والمعالم للحضارات الأخرى غير الإسلامية هو من باب الحكمة والموعظة الحسنة التي لا تَحول بينهم وبين الدخول في الإسلام طوعاً «لا إكراه في الدين»، والمساس بتلك المعالم هو جزء من ذلك الإكراه الذي لم يشرعه الله، حيث جعل في تلك الآثار حُجة للناس وأراد لها بقاءها كما جاء في القرآن: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الَذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَ قُوَة وَآَثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ». السير في الأرض هنا المقصود به سير استفهام واستدلال وبحث عن الآيات، أي الأدلة في آثار الأولين. وكلتا الآيتين أيضاً متصلتان بما جاء في الآية رقم 80 بقوله تعالى: «وَلِتَبلغوا عَلَيْهَا حَاجَة في صُدُورِكُم وعَلَيها وعَلَى الفُلْك تُحْمَلُونَ».
الحفاظ على الآثار والمعالم التاريخية هو جزء من المقاصد الشرعية العظيمة في تقديم محاسن دين الإسلام الذي جاء بالإحسان: «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم»، ولا شك أن هدم الآثار وتحطيمها أو تحويل المعالم التاريخية في البلدان التي تنتمي إليها طوائف متعددة من أديان مختلفة، أعظم تأثيراً من مجرد الشتم الذي هو موقف عابر، أما هدم الآثار أو تغيير الكنائس والتعدي عليها فشيء ثابت مستدام غير متحول، فالله تعالى لم يأمر باقتلاع علامات أوجدها هو للناس ليستدلوا بها على وجوده، وهذا جزء مهم في سماحة الإسلام الذي جاء متمماً وأيضاً متقبلاً لما لدى الآخرين من خصوصيات ثقافية من دون المساس بها بالقوة.
الآثار الخاصة بالأمم ومنها الكنائس ودور العبادة لغير المسلمين تم احترامها والاهتمام بها وتأريخها على مدار التاريخ الإسلامي قبل اختطاف مفاهيم الإسلام المعتدلة في العصر الحديث لصالح الخطاب المتطرف، ومن يتأمل كتاب «مفتاح السعادة» وهو من أشمل معاجم أنواع الفنون، نجِده يقول عن علم الآثار: «وهو علم يبحث فيه عن أقوال العلماء الرَّاسخين من الصَّحابة والتابعين والسَّلف الصَّالحين، وأفعالهم وسيرهم في أمر الدّين والدنيا؛ فهذا هو غاية ما يُفهم عند المسلمين الأوائل والمصنِّفين المتأخِّرين من كلمة الآثار إذا ما ذكر علم الآثار».
الأصل الذي اعتمده علماء الإسلام والفقهاء في الحفاظ على الآثار والكنائس ومعابد الأديان الأخرى كان من خلال الاستدلال بمقاصد الشريعة التي جاء بها القرآن وأيضاً من خلال «الممارسة العملية»، حيث لم يعتدِ الفاتحون الأوائل من المسلمين على كنائس ومعابد الآخرين قبل ظهور المد العثماني ثم مع نشأة الجماعات المتطرفة الإرهابية.
أمر الإسلام أتباعه بترك الناس وما اختاروه من أديانهم، ولم يُجبرْهم على الدخول في الإسلام قهراً، وسمح لهم بممارسة طقوس أديانهم في دور عبادتهم، وضمن لهم من أجل ذلك سلامة دور العبادة، وأَوْلاها عناية خاصة؛ فحرم الاعتداء بكل أشكاله عليها.
وبذلك جاءت السنة النبوية الشريفة؛ فكتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: «إن لهم عليّ ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بِيَعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ألّا يُغَيَّرَ أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه؛ ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غيرَ مُثقَلين بظلم ولا ظالمين» أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب «الأموال».
والحال أن الشريعة الإسلامية تكفلت توفير الأمان لأهل الكتاب في أداء عبادتهم، وهذا كما يقتضي إبقاء الكنائس ودور العبادة على حالها من غير تعرض لها بهدم أو تخريب، وإعادتها إذا انهدمت أو تخربت، فإنه يقتضي أيضاً جواز السماح لهم ببناء الكنائس وأماكن العبادة عند احتياجهم إلى ذلك؛ فإن الإذنَ في الشيء إذنٌ في مُكَمِّلات مَقصودِه؛ كما يقول الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد في «إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام».
لا يمكن أن نجمع بين تحويل الكنائس وبين إقرار الإسلام لأهل الذمة البقاء على أديانهم وممارسة شعائرهم الدينية من بناء دور العبادة التي يتعبدون فيها عندما يحتاجون إلى ذلك! فما دام المسلمون قد ارتضوا بمواطنة غير المسلمين، ومعايشتهم، وتركهم وما يعبدون، والحفاظ على مقدساتهم وأماكن عبادتهم؛ فينبغي أن يجتهدوا في توفير دور العبادة لهم وسلامة تأديتهم لعبادتهم.
إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أقرَّ في عام الوفود وفد نصارى نجران على الصلاة في مسجده الشريف، والمسجد هو بيت الله المختص بالمسلمين، فمن باب أولى الحفاظ على دور العبادة الخاصة بهم التي يؤدون فيها عباداتهم وشعائرهم التي أقرهم المسلمون على البقاء عليها إذا احتاجوا لذلك وعدم الاعتداء عليها أو تحويلها.
من أهم الوسائل لفهم موقف الإسلام هو «ما جرى عليه عمل المسلمين» خصوصاً في العصور الأولى التي تعد هي الممارسة العملية؛ فقد جرى على ذلك عمل المسلمين عبر تاريخهم المشرف وحضارتهم النقية وأخلاقهم النبيلة السمحة؛ منذ العصور الأولى وعهود الصحابة والتابعين.
حيلة إردوغان التي يحاول الاستفادة منها ليست جديدة بل وقعت في التاريخ الإسلامي، وهي محاولة الضغط على الأمم الأخرى عبر حضاراتها واستفزازها بشكل متعمد واللعب على المشاعر، وهذا الأمر حدث تماماً مع الروم، كما نقله المؤرخ محمد كُرْد علي في «خطط الشام» (6 - 10 - 12. ط. مكتبة النوري، دمشق)، إذ يقول: «وكان الداعي إلى ذلك ما وقع من اضطهاد المسلمين في الروم على الغالب فلم يجد ملوك الإسلام واسطة لتخفيف الشر الواقع على رعاياهم من أهل الإسلام إلا بالضغط على النصارى في ديارهم والتأثير في ملوك النصارى بضربهم في أكبادهم في كنائس هي مهوى قلوب أبنائهم في بيت المقدس»، فما أشبه الليلة بالبارحة!