هاشــم صالــح
كاتب وباحث ومترجم سوري، يهتم بقضايا التجديد الدّيني ونقد الأصولية ويناقش قضايا الحداثة وما بعدها.
TT

الكرة في ملعب المفكرين

من الرباط انتقلنا إلى تونس لحضور ندوة فكرية غنية بالمداخلات والمناقشات، وقد كانت من تنظيم جهتين اثنتين: مؤسسة «كونراد أديناور»، و«المرصد العربي للأديان والحريات»، برئاسة الدكتور محمد الحداد، وشارك فيها عدد من أقطاب الفكر العربي المعاصر، نذكر من بينهم، على سبيل المثال لا الحصر، الدكتور وحيد عبد المجيد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة وعضو البرلمان السابق، والدكتور عبد الله السيد ولد أباه، أستاذ الفلسفة في جامعة نواكشوط وعضو مجلس أمناء مؤسسة «مؤمنون بلا حدود»، والأستاذ عبد الوهاب بدرخان، المحلل السياسي والكاتب المعروف الذي ألقى مداخلة قيمة بعنوان: «الربيع العربي - دروس ومراجعات»، والدكتور رضا الشنوفي الذي أتحفنا بعرض دقيق وصعب لنظرية هابرماس عن العقل التواصلي الحواري وأخلاقية النقاش والحجاج التي لا ديمقراطية من دونها، والدكتور عبد الكريم العلاقي الذي تحدث لنا عن جذور حقوق الإنسان في تونس، والباحثة المغربية أسماء الشرايبي التي تحدثت لنا بمهارة عن حقوق المرأة قبل الحراك العربي وبعده، والدكتورة المغربية إكرام عدناني التي تحدثت لنا بكل ألمعية عن تأثير الحراك الحالي على مستقبل حقوق الإنسان، والدكتورة المضيئة منيرة الرزقي التي تحدثت لنا عن دور المرأة في إنجاح الانتقال السياسي في تونس، ومعلوم أنه كان دورا عظيما، وآخرون.
في البداية ألقى محمد الحداد مداخلة افتتاحية بانورامية شاملة عن الأوضاع التونسية والعربية، وقد تميزت بالمرونة الشديدة وعمق التحليل، وقال لنا إننا نعيش وضع المتشائل في تونس؛ أي المتفائل والمتشائم في آن معا، ولكن تبقى تونس أفضل من غيرها وفي وضع أقرب إلى التفاؤل منه إلى التشاؤم. ومن إيجابيات التجربة التونسية إسقاط الاستبداد ورفع القداسة عن السلطة السياسية وربما عن السلطة الدينية، ثم الحد من تزييف الانتخابات والتلاعب بها، ثم إخافة المسؤولين وردعهم عن ممارسة الفساد والاغتناء غير المشروع بلا رقيب أو حسيب، ثم إدماج جزء من الإسلام السياسي في مشروع المواطنة والديمقراطية، ولكن هناك سلبيات ومخاطر تحدق بالتجربة، ربما كان أخطرها الشحن الديني، ولا أقول الطائفي، لأن تونس متجانسة دينيا ومذهبيا في أغلبيتها الساحقة، وربما كان هذا أحد أسباب نجاحها أو عدم تحولها إلى حرب أهلية، ولكن حتى داخل هذا الانسجام الديني هناك انقسام جدي، بل أحيانا خطير بين التنويريين والأصوليين في فهم الدين. وهذا الأمر لا ينطبق على تونس فقط، وإنما يشمل أيضا دولا عربية أخرى، بل حتى الإيراني والتركي.. إلخ. والدليل على ذلك أن المرشد الإيراني، خامنئي، حاول السطو على الثورة التونسية منذ بداية اندلاعها عن طريق الزعم بأنها ثورة دينية على الطريقة الإيرانية! وقد فعل الشيخ القرضاوي شيئا مشابها عندما دعا في خطبة الجمعة أيضا إلى إسقاط الدستور العلماني التونسي والتراجع عن حقوق المرأة! وهنا نصل إلى بيت القصيد، إلى الحد الفاصل بين الثورات النكوصية - والثورات المستقبلية. ولهذا السبب دعا محمد الحداد حركة النهضة التونسية في مؤتمرها المقبل والمؤجل باستمرار إلى إعلان قطعها مع الآيديولوجيا الإخوانية وفكر القرضاوي ذاته.
ثم تسلم الكلام بعدئذ الدكتور وحيد عبد المجيد، وقدم لنا مداخلة هامة قارن فيها بين الثورات الأوروبية والثورات العربية، وقال لنا إن الثورات أو الانتفاضات تنفجر عادة عندما يغلق باب الإصلاح، وبالتالي فالثورة ليست اختيارا وإنما اضطرارا، وهي كأي عمل اضطراري أو إجباري ليست مفضلة ولا مرغوبة وإلا لكانت اختيارا، فالمرغوب دائما هو الإصلاح التدريجي المعقول، وذلك لأن الثورات العارمة يرافقها سفك دماء كثيرة وآلام تفوق الوصف، وهذا صحيح. واستشهد بنص كانط الشهير: «ما هو التنوير؟»، وهو نص يحدث قطيعة مع اللاهوت المسيحي والفكر الإخواني القديم الذي كان مسيطرا على أوروبا آنذاك مثلما هو مسيطر علينا اليوم. ومعلوم أن كانط كتب نصه عام 1784؛ أي قبل اندلاع الثورة الفرنسية بـ5 سنوات فقط، وفيه دعا إلى تنوير العقول، وأطلق شعاره الشهير: «تجرأ على استخدام عقلك أيها الإنسان! فالله وهبك العقل لكي تشغله لا لكي تلغيه»، ولكن المشكلة هي أن الإنسان لا يتجرأ على ذلك، لاعتبارات حددها بعض الكهان، وبالتالي فهو مرعوب، ولذلك قال له كانط: «تجرأ على استخدام عقلك»؛ أي تحرر من الوصاية، ولكن القول شيء والفعل شيء آخر. وكانط كان يعرف عندما كتب هذا النص أن معظم الألمان في وقته كانوا عاجزين عن تطبيق نصيحته، لأنهم واقعون تماما تحت وصاية الكهان، ولهذا السبب، فعندما سأله أحدهم: هل نحن مستنيرون يا أستاذ؟ أجاب: لا، ولكننا سائرون نحو الاستنارة. وأعتقد أن هذا الجواب ينطبق على الحالة العربية والإسلامية الراهنة.
ينبغي ألا تكون لدينا أوهام كثيرة عن أنفسنا نحن المحدثين. نحن لا شيء؛ وزننا وزن الريشة، على الأقل حتى الآن. ولهذا السبب نقول بأن المعركة السياسية لن تحسم قبل حسم المعركة الفكرية. ومن سيحسمها؟ أين هو كانط العربي؟ أو ديكارت العربي؟ أو هيغل العربي؟.. إلخ. وبالتالي، فالحق ليس على السياسيين فقط، وإنما على المثقفين أيضا، والكرة في ملعبهم، ولكن لكي نعذرهم قليلا ينبغي أن ندرك أن الشعب في أغلبيته لا يستطيع في ظروفه الصعبة الحالية أن يصغي لفكر آخر غير الفكر التقليدي الذي تربى عليه أبا عن جد منذ مئات السنين، والذي يدخل الطمأنينة إلى قلبه. وبالتالي، فبأي حق نريد زعزعته نفسيا؟ هنا تكمن المعضلة الكبرى للمنعطف العربي والإسلامي كله، وهو منعطف يتجاوزنا جميعا ولا حيلة لنا فيه.