عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

أميركا... النار تحت الرماد

«الشغب هو لغة غير المسموعين».. عبارة استخدمها زعيم حركة الحقوق المدنية الراحل مارتن لوثر كينغ في مقابلة تلفزيونية عام 1966 ثم في بعض خطبه لاحقاً. خلال الأيام الماضية تكررت هذه العبارة في عدد من الخطابات والكتابات، في إطار التغطية للاحتجاجات الواسعة التي انتشرت في أرجاء أميركا وحدثت خلالها أحداث شغب نتيجة الغضب الذي تفجر بعد القتل الهمجي للأميركي من جذور أفريقية جورج فلويد تحت ركبة شرطي أبيض هو ديريك شوفين في الخامس والعشرين من مايو (أيار) الماضي.
لم يكن كينغ داعية عنف كما نعلم، وهو بالتأكيد لم يكن يؤيد بكلامه ذاك استخدام الشغب أو العنف. رسالته كانت في جوهرها دعوة إلى معالجة الأسباب التي دفعت الأميركيين من جذور أفريقية إلى الاحتجاجات التي رافقت بعضها أحداث شغب آنذاك، وما تزال تتكرر حتى اليوم. فقد شرح الرجل في مقابلته تلك وفي الكثير من خطبه أن أحداث الشغب لا تأتي من فراغ، وأن ظروفاً معينة تهيئ لها، وتدفع إليها إذا استمرت أميركا لا تسمع صوت أنين وشكاوى الملايين المطحونين من الأميركيين من جذور أفريقية أو من المجموعات الإثنية الأخرى، وإذا لم ينتهِ الغبن والعنصرية، وتتحقق شعارات ووعود العدالة والمساواة.
بعد كل هذه السنوات على كلام كينغ وعلى مقتله عام 1968 وهو ينظم ويقود الاحتجاجات السلمية، ما تزال أميركا تعاني من سرطان العنصرية، وما يزال الأميركيون من جذور أفريقية ومن إثنيات أخرى، يشكون من تبعاتها. فما حدث خلال الأيام الماضية كان أكبر من مجرد التعبير عن الغضب على مقتل جورج فلويد، إنه انفجار الغضب المكبوت على الغبن المتراكم، والإحساس بالظلم والتهميش، والعنصرية التي تأبى أن تزول. فقتل فلويد سبقته جرائم قتل أو حوادث عنف عديدة استهدفت الأميركيين من جذور أفريقية. والأرقام التي نشرت في صحيفتي «واشنطن بوست» الأميركية و«الغارديان» البريطانية تشير إلى أن عدد الأميركيين من جذور أفريقية الذين قتلوا على يد الشرطة منذ عام 2015 فقط يتراوح ما بين 381 و442. والأرقام ترتفع بالطبع عندما يضاف إليها أعداد من قتلوا بأيدي مدنيين من البيض، أو إذا امتدت الإحصائيات إلى سنوات أبعد من ذلك.
الغضب الواسع الناجم عن هذه الجرائم أو عن شكوى الأميركيين من جذور أفريقية من أنهم مستهدفون بشكل غير عادل من الشرطة، ويتعرضون لمعاملة مهينة بل ووحشية، وأن مؤسسات السلطة لا تقوم بما هو مطلوب لإنهاء الظلم والعنصرية، ولتحقيق العدالة والمساواة، يجد تعاطفاً وتفهماً من قطاعات واسعة داخل أميركا وخارجها. ولهذا فإن مظاهرات الغضب والاحتجاج لم تكن معزولة، بل شارك فيها أميركيون من مختلف الإثنيات بما في ذلك أعداد كبيرة من البيض، كما أنها امتدت خارج حدود الولايات المتحدة إلى كثير من المدن حول العالم.
لكن في المقابل هناك تحذيرات ومخاوف من مغبة تحول المظاهرات عن طابعها السلمي والضرر الذي ستلحقه بها مناظر الشغب والحرق والتدمير للمنشآت. فهناك عناصر داخل أميركا الرسمية والشعبية يسعدها انحراف الاحتجاجات عن سلميتها وطغيان صور الشغب، لأن ذلك سيبرر الدعوات لقمعها، وسيسحب منها التعاطف، ويبقي الأمور على ما كانت عليه قبل انتشار صور القتل الوحشي لجورج فلويد.
وكان لافتاً في هذا الصدد أن الرئيس دونالد ترمب الذي واجه انتقادات واسعة لطريقة تعامله مع الأحداث ركز على أعمال الشغب في أكثر تعليقاته على المظاهرات الواسعة، وحاول توظيفها لحشد قاعدته الانتخابية واستخدام شعارات فرض الأمن وهيبة القانون. فقد لوح منذ الأيام الأولى للمظاهرات باستخدام القوة العسكرية، ووصف حكام الولايات بالضعفاء لأنهم لم يسيطروا على الاحتجاجات، كما استخدم أحداث الشغب ليصف المحتجين بـ «الإرهابيين واللصوص، والمنحطين»، وليدمغهم بأنهم «يسار راديكالي». وفي بداية الأسبوع الحالي خرج سيراً على الأقدام من البيت الأبيض إلى كنيسة قريبة تعرض قسم منها للحرق ليدعو مجدداً إلى «الهيمنة» على المحتجين وتنفيذ حملات اعتقال واسعة.
الواقع أن هناك من يرى أن الاحتجاجات، لا سيما أحداث الشغب التي رافقتها، ربما أفادت ترمب بطريقتين؛ الأولى أنها صرفت الأنظار ولو مؤقتاً عن كارثة الكورونا والانتقادات للإدارة بعد أن بلغ عدد الوفيات حتى الآن أكثر من 108 آلاف، وتجاوز عدد المصابين مليوناً وثمانمائة ألف شخص، وثانياً أنها ساعدت في حشد قاعدته الانتخابية التي ربما لا يتعاطف قطاع كبير منها مع مظاهرات الأميركيين من جذور أفريقية، ويصطف بالتالي وراء ترمب في كلامه عن فرض الهيمنة على المحتجين والتلويح بالقوة العسكرية.
المحتجون أمامهم فرصة لكبح جماح مثيري الشغب واستخدام سلاح السلمية وهو الأقوى، ولديهم في تاريخ نضالهم ضد العنصرية إرث طويل رسخه مارتن لوثر كينغ وكثير ممن تبعوه في ذلك الخط. والمظاهرات في كل الأحوال مهما استمرت سوف تخبو بعد حين وسوف يتراجع الاهتمام الإعلامي، لكنها تقدم فرصة للحشد والتأثير بينما تستعد أميركا للانتخابات بعد خمسة أشهر من الآن. ولو نظم المحتجون أنفسهم ووضعوا غضبهم في صناديق الاقتراع في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل فإنهم سيحدثون أثراً أقوى يمتد من البيت الأبيض والكونغرس، إلى حكام الولايات والعمد.
وهناك بوادر على إمكانية الاستفادة من التعاطف الواسع الذي تشكل. فأمس خسر النائب الجمهوري ستيف كينغ التصويت للفوز بفرصة الترشح مرة أخرى عن دائرته في أيوا التي مثلها 18 عاماً في الكونغرس، في ما وصف بأنه أكبر خسارة حتى الآن في الانتخابات التمهيدية استعداداً لمعارك نوفمبر المقبل. كينغ الذي يعد من مناصري ترمب، اشتهر بمواقفه التي اعتبرها البعض عنصرية، وبعدائه للمهاجرين ودفاعه عن «التفوق الأبيض» وتقاربه مع حركات وشخصيات يمينية متطرفة.
وأول من أمس انتخبت السيدة إيلا جونز عمدة لمدينة فيرغسون بولاية ميسوري لتصبح أول شخص من جذور أفريقية أميركية يتولى هذا المنصب في المدينة التي انفجرت فيها مظاهرات وأحداث شغب واسعة عام 2014 إثر مقتل مراهق من جذور أفريقية على يد شرطي أبيض.
مقتل جورج فلويد يمكن أن يشكل فرصة لبداية تغيير لو ابتعد المحتجون عن الشغب وتذكروا كلمات ونهج مارتن لوثر كينغ، ولو انتبهت أميركا إلى النار تحت الرماد.