سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الرقمية هي «المخلّص»

لن يقوى العالم على البقاء في الحجْر، حتى عام 2022 كما بشّر تقرير أكاديمي أميركي، محذراً من أن الفيروس لن يندثر، وعلى الجميع التعايش معه. تلك معلومة تبدو أقرب إلى الواقع، ما دام أن اللقاح يحتاج سنة على الأقل، والعلاج لا يزال متعثراً، وأحسن السيناريوهات هي التي تعدنا باستراحة موسمية في الصيف وطفرة جديدة مع بدء الخريف. والهدنة المنتظرة لا تزال موضع شك، كما أن حكاية «مناعة القطيع» التي روّج لها، واعتمد عليها، قد تسقط أمام الاختبار الدامي الذي نشهده في أوروبا وأميركا، إذا ما تبين أن مناعة المصابين قصيرة الأمد، وليست لقاحاً طبيعياً يركن إليه.
لهذا، وفي ظل انهيارات اقتصادية، لن تبقي ولا تذر، فيما لو استمر الحجْر، يستعدّ العالم للتأقلم مع الفيروس، والخروج إلى العمل، ما دام أن قتله لا يزال بعيد المنال. والصراع مع «العدو الخفي» سيتم بطريقتين؛ وهي المزج بين الوسائل الأكثر بدائية كـ«التباعد الاجتماعي» و«لثام الوجه»، والأكثر حداثة بالاستعانة بالمعدات التكنولوجية كالتطبيقات الذكية والروبوتات الشديدة النشاط، بعد أن أثبتت نجاعة يعوّل عليها، في دول الشرق الأقصى مثل سنغافورة والصين وكوريا الجنوبية. ولمرة جديدة بعد طول نكران سترصد الميزانيات الكبار للبحث العلمي، وعلماء الرياضيات والبيانات، والكيميائيين والفيزيائيين، ومن قبلهم البيولوجيون الذين هجر غالبيتهم اختصاصه، لقلة الأشغال والجحود والإهمال. ولم نكن لولا الجائحة لنرى الرئيس الفرنسي ينتقل إلى مرسيليا ليقابل العالم ديديه راؤول صاحب وصفة الكلوروكين، ويتعرف على فريقه العلمي، ويسأل عن أعمارهم وجنسياتهم وألوانهم، أو نرى رئيس الوزراء اللبناني، يتواصل مع الطلاب اللبنانيين في هذا الفريق، بعد أن اكتشف أنهم كثر، ليطمئن على أحوالهم، ويسألهم أن يحجزوا مكاناً للبنان على لائحة اكتشافاتهم.
وأدركت الأمم المتحدة أن قضية الساعة هي العلم والاختراعات، وليست الصراعات المسلحة، فوجهت جلّ طاقاتها، في هذا الظرف لعقد اجتماعات على الفيديو، مع بحاثة وتكنولوجيين، ومصممين وعلماء إحصاءات، لتتداول معهم في الحلول الوسطية التي يحتاجها البشر.
ويبدو أن الجميع بات متيقناً أن ما يعطله الحجْر، بمقدور التواصل الإنترنتي أن يحله ولو جزئياً، من التدريس عن بعد الذي لا يزال بدائياً رغم كل ما يقال فيه، إلى التعاون الطبي عبر القارات، والتفاعل من أجل العثور على اختراعات جديدة للتخفيف من وطأة البلاء. ولولا التواصل الإنترنتي ما اجتمعت «أوبك» ولا تواصل أعضاء الاتحاد الأوروبي، أو عقدت اجتماعات لفض نزاعات. وفي الوقت الذي يعود الصناعيون في عز الأزمة إلى معاملهم ويستعان بالمتطوعين، وتنتعش معامل الاختبارات الطبية، تسرّح شركات تقليدية عمالها بالملايين.
قد يبدو الأمر عابراً، لكن أصحاب التفكير الجاد أدركوا أننا قد نكون بعد وقت ليس ببعيد على موعد مع أوبئة أخرى، أو كوارث من نوع جديد، وعلى الجميع أن يستعد، لتقوية الردود العلمية عن بعد.
فنموذج الروبوتات المعقِمة للشوارع والسيارات، والدرونات التي تراقب المدن، والتطبيقات التي تتعقب المصابين، والأساور المبرمجة التي تنقل المعلومات، ستكون المعين الأهم، للعودة الجزئية إلى الحياة، لكنها غير كافية، للحد من الإصابات بالآلاف. لذلك فالأمم المتحدة جادة في العمل مع كل من يمتلك موهبة، لتطوير ابتكارات إضافية وفي وقت قياسي، وكل الاعتماد على ما ستتفتق عنه عقول تواقة للإبداع.
ولا داعي للتذكير بأن الطباعة الثلاثية الأبعاد، وبتعاون إنساني كبير من الشركات المصنعة التي تخلت عن حقوقها الحصرية، سمحت لشبان في كل بلد، من استنساخ أجهزة التنفس بالآلاف لإنقاذ المصابين. وصار بفضل التكنولوجيا بمقدور فريق صغير أن ينتج هذا الجهاز، وأي شخص عادي أن يصنّع أصعب أنواع الكمامات. وما فعله «كورونا» هو أنه سرّع، وبشكل لم يكن متوقعاً، قفزة تكنولوجية، كانت تحتاج عشر سنوات على الأقل. الحوافز مادية لأن الدول الكبرى رصدت ملياراتها، بعد أن تخلت عن مشاريعها التي لها نكهة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتدخل عنوة بميزانياتها عصر الابتكارات الرقمية التي كانت تركتها للشركات الخاصة. كما أن الدوافع معنوية، لأن المبتكرين يعرفون أنهم ينتجون ما سيسعف بني جلدتهم، وينقذ الأرواح.
وليس أفضل من الحروب لتطوير الحياة، وتلك التي نخوضها حرب كبرى تعصف بالبنوك وتزلزل إمبراطوريات مالية، وتطيح ببورصات وتبني تصوراً جديداً، الرقمية فيه هي «البطل» و«المخلّص» لسنة مقبلة، على الأقل، يكون البشري فيها قد تعود مذاقات مغايرة.
وتسارع الصين في خضم اتهامات متبادلة مع أميركا حول أصل الوباء ومسؤولية تفشيه، لتعلن أن انتصارها على «كورونا» اعتمد أساساً على خدمات «الجيل الخامس» الذي لها فيه السبق والغلبة، وأنها لولا هذا التقدم الرقمي، لما تمكنت من بناء مستشفى «ليشنشن» في يوهان وتأمين خدمات مثالية، بعد أن رصدت خمسة ملايين دولار وثلاثين مهندساً، لضمان احتياجاته التكنولوجية الاستثنائية.
لعل الجائحة بثقلها، أنست البعض أن أميركا استماتت من أجل الحد من أخطبوطية «هواوي» ومشروع «الجيل الخامس» الصيني المتفوق، الذي اضطرت بريطانيا ودول أخرى حليفة لأميركا للاستعانة به، وأن الطفرة الرقمية الجديدة، ستجعله بمثابة الضرورة لحياة أذكى، وعلاج عن بعد، وتحكم آلي بتفاصيل حياتية دقيقة، مهما قاوم المعارضون.
البعض لا يحب الصين، ولكن ماذا نفعل إذا كانت أميركا تحتاج ثلاث سنوات على الأقل، هذا إذا أفرطنا في التفاؤل، كي تبلور ما يوازي «الجيل الخامس»؟ ومن هنا إلى حينه، ستكون الدول مخيّرة بين المواكبة، متنازلة عن بعض خصوصياتها، قابلة لانكشافها أمام التنين، أو الانتظار على قارعة الرقمية، وتلك معادلة جداً صعبة.