د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

المأزق التركي

لا أحد يتعلم من دروس التاريخ، ولا يوجد درس يمكن تعلّمه في الشرق الأوسط أكثر أهمية من درس معروف للمؤرخين، وهو أنه من الممكن أن تبدأ حرباً، لكن نهايتها سوف تكون مقدرة بأقدار أخرى. أكثر من ذلك، فإن حروب الإقليم لا تنتهي وإنما يطول أمدها، فلا الحرب في الصومال انتهت، ولا حرب أفغانستان، ولا حرب سوريا، ولا حرب اليمن وصلت إلى نهاية. الحروب في المنطقة تخلق آليات استمرارها، بالتدخلات الأجنبية، أو بالانتقال من الريف إلى المدن، أو من البر إلى البحر، أو باستخدام أساليب الحروب التقليدية، أو حروب العصابات، أو حروب المدن، أو الحروب الإرهابية.
أشكال مختلفة من القتل وأدواته ومن أكثرها تقدماً تكنولوجياً إلى أكثرها بدائية، ومن الفيالق والفرق حتى الذئاب المنفردة. تركيا هي آخر الذين لا يتعلمون، ومن المدهش أنها بالفعل متورطة في ثلاث حروب: واحدة داخلها مع الأكراد، وثانية في العراق مع الأكراد أيضاً، وثالثة في الشمال السوري التي خلقت لنفسها مصيدة فيه، وهي الآن فريسة لجماعات إرهابية لا تعرف كيف تتعاون معها أو تحاربها أو تقوم بالتعاون والحرب في الوقت نفسه، لكنها من ناحية أخرى باتت في مصيدة أخرى للأكراد، وهدفاً للنظام السوري، وغرضاً للوجود الروسي. ما ذكرته تركيا فيما يخص هذه الجبهة الأخيرة، أنها سوف تخلق منطقة آمنة تمنع الأكراد من الاستقلال، وتدفع إليها ملايين اللاجئين الذين يعيشون في الجنوب التركي، وتقوض أكراد تركيا من الداخل السوري! ما جرى عملياً هو أن المنطقة الآمنة باتت أقل أمناً من أي وقت مضى؛ وأصبحت القوات التركية صيداً لهجمات جماعات إرهابية طالما ساعدتها أنقرة على المرور والتسلح بالسلاح والمؤن، وأكثر من ذلك أن العنف الشديد في الإقليم غير الآمن دفع ربع مليون لاجئ سوري جديد إلى تركيا. وكأن كل ذلك كافٍ، فإن تركيا اندفعت 2000 كيلومتر لكي تصل إلى ليبيا، أو الشمال الغربي لليبيا، وتوقع مع حكومة «الوفاق» في طرابلس اتفاقاً بحرياً يرسم حدوداً بحرية لما هو غير موجود، حيث لا يوجد شواطئ متقابلة؛ ومعه اتفاق أمني يتيح لتركيا نقل مساعدات عسكرية والتدخل المباشر على الأراضي الليبية.
هل تريد تركيا الحرب في جبهة رابعة مخالفة درس التاريخ الآخر الذي يرفض الحرب على جبهتين، لكن إردوغان يأخذ تركيا إلى مأزق حرب على أربع جبهات. لم يعد هناك مكان لما كان في عقد سبق «صفر صراع»، وإنما بات التفضيل للصراع على كل الجبهات. وهذه المرة، فإن الجبهة بعيدة، ووفقاً لمراقبين عدة فإن المطالب متعارضة بين الوفاق وأنقرة، فمن الناحية العسكرية البحتة فإن طرابلس لا يكون لها في الاتفاق الأمني فائدة ما لم يكن هناك قوات على الأرض، البعض قدّرها بلواء كامل بكل ما يلزمه من عدد وعتاد قد يصل إلى 3000 جندي، ومعه غطاء جوي وآخر بحري. من دون ذلك، فإن تحقيق تكافؤ وتوازن القوة مع الجيش الوطني الليبي لن يكون ممكناً، وسوف يظل ضغط هذا الأخير قائماً. في بداية القصة العسكرية الجديدة كان الظن الإردوغاني قد ذهب في اتجاه نوع من الوجود العسكري بإمداد للسلاح، وبعضاً من عشرات المدربين، لكن ذلك لم يكن ليغني شيئاً لحكومة السراج المضغوطة، ومن ثم كانت محاولة الوصول إلى تونس، والادعاء بأن ائتلافاً تركياً – تونسياً - جزائرياً يتكون، لكن الحكومة التونسية والشعب التونسي أحبط المحاولة. من الناحية العملية والعسكرية، فإن تركيا لا يوجد لديها لا من الإمكانات الجوية أو البحرية ما يجعلها تصل إلى ليبيا من دون أن يتزايد انكشافها سواء في البحر المتوسط أو في الأجواء المتوسطية التي لا يمكن للطيران التركي عبورها من دون عمليات تموين جوية مستمرة.
كل ما سبق يشكل مكونات المأزق التركي الحالي الذي تتصرف فيه تركيا كما لو كانت ليس كقوة إقليمية متوسطة، وإنما كقوة عظمى واسعة الإمكانات العسكرية والاقتصادية. السؤال هو إذا كانت كل القدرات التركية مستنفذة بالفعل، فلماذا تفعل القيادة التركية ما تفعل، وهو أنها تزداد تورطاً كل يوم، ولا تعمل على الخروج من أزمات وضعت نفسها فيها، وإنما تضيف أزمات جديدة؟
الإجابة عن ذلك هي أن هناك هدفين كلاهما له طبيعة استراتيجية: الأول مد النفوذ التركي الاستراتيجي في المنطقة، وهو ما يجعل التحرك نحو ليبيا امتداداً للحركة في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، والآن جاء وقت البحر المتوسط. والآخر اقتصادي، وهو أن يكون لتركيا مكان في إقليم شرق البحر المتوسط الخاص بالغاز والنفط بالشروط التركية وليس بالشروط التي يقررها قانون البحار. فتركيا تقوم برسم الحدود البحرية مع دولة غير متشاطئة معها، ولا حتى متشاطئة مع قبرص التركية التي لا يعترف بها أحد سوى تركيا، ومن ثم فإن أنقرة تعتبرها عملياً جزءاً من الإقليم التركي. كلا الهدفين أكبر بكثير من القدرات التركية، وأكثر من ذلك فإنها تدفع المأزق التركي إلى التمدد والاتساع. من ناحية، فإن التمدد التركي في البحر المتوسط يضع تركيا في تلامس مع روسيا المؤيدة للجيش الوطني الليبي والتي لا تريد اتساع نطاق الحرب في ليبيا، وكل ما تريده هو وقف إطلاق النار. في هذا الإطار، فإن استعداء روسيا في ليبيا لا يتماشى مع محاولة لائتلاف معها في سوريا؟ ومن ناحية أخرى، فإن التحركات العسكرية التركية سوف يكون عليها الوجود في بحر إيجة، حيث التناقضات مع اليونان كبيرة وتاريخية؛ وبإشعال النار في منطقة شرق البحر المتوسط، فإن ذلك يدخل في مواجهة مع مصر ودول منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط، بل وأكثر من ذلك ربما مع دول مثل إسرائيل وقبرص واليونان التي اتفقت على إقامة خط أنابيب لنقل الغاز إلى أوروبا عبر قبرص وغرب اليونان ومنها إلى إيطاليا، من خلال خط أنابيب «بوسايدون».
أوروبا من وراء ذلك سوف يكون عليها تحديد موقف من التدخل العسكري التركي الذي يعمق من معضلة اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، ولا تصبح هناك فائدة من المساندة الأوروبية الاقتصادية لتركيا من أجل منع هؤلاء من القدوم عبر الحدود التركية، فكما رأينا أعلاه، فإن تركيا بالفعل تزيد من مخزون اللاجئين لديها بسبب تصرفاتها على الأراضي السورية، وها هي تدفع في اتجاه تفجير الموقف تجاه الساحل الأفريقي والسواحل الأوروبية.
الجائز هو أن أوروبا، وفي المقدمة منها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، ومعهم بقية حلف الأطلنطي، وفي المقدمة منه توجد الولايات المتحدة، سوف تلعبان دور المرجح في اللعبة التركية، وعما إذا كانت ستترك لكي تمضي قدماً بهدف استنفاد قوة الدفع التركية في صراع جديد؛ أو أنها وخاصة واشنطن سوف تنظر إلى خريطة الشرق الأوسط من الزاوية الإيرانية؛ فطهران هي الأخرى دفعت حظوظها قدماً بما تفعله في العراق حتى وصلت إلى أسوار السفارة الأميركية في بغداد!