حين قال «نمر باقر النمر»، وهو المواطن السعودي الذي حكمت عليه محكمة سعودية بالقتل تعزيرا، في إحدى خطبه، نعم إن «ولاية الفقيه» ستحكم العالم وليس العراق وسوريا فقط، فإنه لم يكن يتحدث عن انتشار أو زيادة رقعة عدد معتنقي عقيدة «ولاية الفقيه» كنظرية، إنما كان يتحدث عن مشروع امتداد نفوذ الدولة الإيرانية، أي أنه كان يتوعد ويهدد بامتداد حكم رئيس الجمهورية الإيرانية على كل العالم بما في ذلك المملكة العربية السعودية.
إيران في النهاية دولة لديها مشروع قومي وإن كان ذا أبعاد آيديولوجية، إنما هو مشروع مكلف سياسيا وماديا، ومن أجله تسخر إيران جزءا كبيرا من مواردها المادية، حتى أصبحت هذه السياسة المالية عبئا على الحكومة الإيرانية ومصدر قلق في الداخل الإيراني، وتحولت إلى ملف مطروح في الجولات الانتخابية الأخيرة بين مؤيدين ومعارضين، وإن كانت هناك أقوال بأن ميزانية تلك المساعدات تأتي من الخمس (الضريبة الدينية) من الشيعة الإيرانيين ومن غير الإيرانيين، إلا أن جزءا مخصصا من موازنة الدولة يذهب لمساعدة الجماعات الموالية.
فالدعم الإيراني للجماعات العربية الموالية لنظام ولاية الفقيه لم يقف عند «الدبلوماسي» منه فقط، بل إن طهران قدمت لها دعما ماليا وأحيانا دعما عسكريا مباشرا كما في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وغير مباشر عبر التدريب كما في البحرين والسعودية، من خلال تدريب خلايا تلك الجماعات في مخيمات موجودة في إيران والعراق وسوريا، وتتحرك بذات النهج في باكستان، وفي أفغانستان تقدم مبلغا (كاش) للنظام هناك، حيث اعترف كرزاي، وهو رأس السلطة، بتسلمه مبالغ مالية (لمصاريف الرئاسة ولأمور أخرى.. حسب تعبيره) من إيران، وفقا لصحيفة «نيويورك تايمز» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010. وكذلك لإيران محاولات للتغلغل في المغرب العربي ووجهت بشدة، ووصل الأمر إلى قطع العلاقات كما هو الحال في السودان. وفي أوروبا والولايات المتحدة الأميركية هناك قواعد لوجيستية تروج للمشروع الإيراني لما تقتضيه المصالح الإيرانية، وكلها مشاريع مكلفة وتستنزف من الاقتصاد الإيراني المرهق أصلا.
قد يكون ملف الدعم أو المساعدات الأجنبية قضية خلافية إيرانية إيرانية معنيا بها الشعب الإيراني بالدرجة الأولى، إنما المشكلة أن حراك الجماعات الشيعية غير الإيرانية على اختلاف تلاوينها العقائدية، شيرازيين كانوا أم غير شيرازيين، من خط الإمام أو حتى من تيار ما يسمى «بالأفندية» وهم أصحاب ربطات العنق الواجهة الترويجية للجماعة، يعتمد اعتمادا كبيرا على هذا الدعم المادي، فهو حراك انفصالي فئوي بامتياز، سواء جاء بشكله الحقوقي أو السياسي كما هو الحراك العسكري، منطلقا بقيادة شيعية وبأعضاء تنظيميين شيعة ويجمع بين طياته عملا شبكيا يضم الشيعة في جميع الدول العربية في بوتقة واحدة، فشل أن يكون حاضنا لأي مطالب شعبية تضم جميع فئات وأطياف المجتمع في أي دولة تحرك فيها.
وكأي مشروع قابل للنجاح والفشل والتأجيل والإلغاء وفقا لما تقتضيه المصلحة ووفقا لما يتعرض له هذا المشروع من عوامل النجاح والفشل، فإن السؤال لهذه الجماعات التي رمت نفسها في حضن مشروع قومي أجنبي، وعزلت نفسها عن حاضنتها ومحيطها وهويتها، ما هو مصيرها في حال وقف هذا الدعم أو في حال اقتضت المصلحة الإيرانية إعادة النظر في المشروع حاليا؟ هل وضعت في حسابهم سيناريو الفشل أو حتى التأجيل؟ ما هي مصادر تمويلها أن أرادت الاستمرار؟ كيف سيكون وضعها ضمن محيطها العربي بعد أن اضطرت إلى إعلان انسلاخها وحرقت جميع مراكبها في أكثر من دولة عربية؟
إنه احتمال وارد ووارد جدا، بل وربما يكون قريبا، فهذا المشروع أصبح عبئا يثقل كاهل الاقتصاد الإيراني ويستنزف طهران ماديا وسياسيا بشكل يبدو وكأن أحدا قد حفر لها حفرة وجرها جرا لهذا الفخ وهذا المستنقع، وبدا هذا الامتداد شرقا وغربا مكلفا في المال والأرواح الإيرانية مثلما هو مكلف للجماعات العربية التي قبلت أن تكون أداة له، فلن يكون الحفاظ على حزب الدعوة العراقي على رأس سدة الحكم مجانيا، ولن يكون الاحتفاظ بنظام بشار الأسد مجانيا، ولن يكون الحفاظ على موقع «حزب الله» في لبنان مجانيا، وها هي تلوح بمساعدات للجيش اللبناني لإنقاذ «حزب الله» له، إضافة لما كان يكلفها «حزب الله» في السابق، ولن يكون الحفاظ على مكتسبات الحوثيين في اليمن مجانيا، ولن يكون ممكنا لجماعة الوفاق البحرينية أن تنشط داخل وخارج البحرين دون دعم مالي يساعدها على الاستمرار خاصة بعد مقاطعتها الانتخابات، فليس لتلك الجماعات حاضنة شعبية ضمن محيطها العربي إذن، كما أنها فشلت في تأسيس حاضنات وطنية ضمن محيط سيطرتها حين تمكنت من السلطة كما هي في العراق ولبنان.
وليس غير الدعم الإيراني حائطا تستند إليه تلك الجماعات، فإذا علمنا أن الاقتصاد الإيراني يعاني من الاختناق نتيجة العقوبات المفروضة عليه ونتيجة للتضخم الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة (تجاوز في أكتوبر/ تشرين الأول 2012 التضخم الشهري 70 في المائة)، فإن التنبؤات التي أصدرها صندوق النقد الدولي ووحدة الاستخبارات في مجلة «الإيكونوميست» تشير إلى أن مؤشر البؤس في إيران ربما سيبقى مرتفعا خلال الأعوام الأربعة المقبلة؛ ومن المحتمل أن يستمر التضخم فوق 20 في المائة خلال الأعوام القليلة المقبلة، وإن كان قد استقر منذ نوبة التضخم المفرط في عام 2012؛ وفي غضون ذلك، من المتوقع أن يستمر انخفاض معدل نمو إجمالي الناتج الوطني، وارتفاع معدلات البطالة إلى أكثر من 20 في المائة، وأسعار فوائد الاقتراض في تصاعد (ستيف هانكي أستاذ علم الاقتصاد التطبيقي، جامعة جونز هوبكنز)، وانحدرت العملة الإيرانية ليصل سعر الصرف إلى 30 ألف ريال إيراني مقابل الدولار (للتذكير فقط كان سعر الريال الإيراني أيام الشاه 100 ريال للدولار الواحد والريال يبلغ 10 تومان).
فإذا أضفنا إلى هذه الضغوط الانخفاض غير المتوقع في سعر البترول الذي تعتمد عليه إيران بنسبة 60 في المائة من دخلها القومي، والذي وصل بسعر البرميل إلى 84 دولارا، فإن إيران مقبلة على أوضاع اقتصادية غاية في الصعوبة. وإذا كانت إيران استفادت من المماطلة في «ملفها النووي» سابقا لاستخدامها كورقة ضغط في التفاوض، فإن تلك المماطلة أصبحت مكلفة ماديا وسياسيا، ففي كل مرة تنتعش فيها الآمال ويتحسن سعر الصرف للعملة الإيرانية فإنه مع كل جلسة مفاوضات يعود ويتأرجح وينحدر بعد كل جولة تنتهي بلا نتيجة.
فهل ستبقي إيران على مشروعها المكلف؟ هل تستطيع أن تصمد؟ وإلى متى؟ فإن أبدت مرونة في ملفها النووي، وإن أبدت مرونة في أوراقها التفاوضية الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، وإن اضطرها الضغط الداخلي إلى إلغاء أو حتى تأجيل مشروعها.. فعلى حساب من ستكون تلك المرونة؟ ومن الذي سيدفع فاتورتها؟ هل حسبت «الجماعات المؤمنة» حساب هذا الاحتمال قبل أن تسقط أقنعتها وتكشف أوراقها وهي منتشية بزهوة التمدد الذي قامت به نيابة عن إيران؟
8:37 دقيقه
TT
أيتام إيران.. إلى أين؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة