د. محمود محيي الدين
المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.
TT

2020: نهاية وبداية

مع بداية لعام جديد، يرجو الناس فيه أن يكون أفضل من سابقه، تساءل البعض مع تبادلهم للتهاني في حوار طريف هل هذا العام 2020 بداية لعقد جديد أم هو نهاية للعقد السابق من هذا القرن؟ وفي هذا العالم الذي يندر فيه الاتفاق على أمر لم تكن الإجابة عن هذا السؤال البسيط استثناءً، فانقسم الناس إلى ثلاثة فرق: فريق البداية الصفرية بأن عام 2020 هو بداية العقد الثالث، وفي مسح نشرته إذاعة «إن بي آر» الأميركية انتمى إلى هذا الفريق 64 في المائة من الذين تم سؤالهم، في حين أن 20 في المائة ذكروا أنهم غير متأكدين من الإجابة القاطعة، أما فريق الأقلية الذي مثله 16 في المائة ذهب إلى أن العقد الجديد سيبدأ مع اليوم الأول من عام 2021. وكان رأي ريك فينبرغ، عضو جمعية دراسات الفلك الأميركية، أن الأقلية على حق في هذا الأمر لأن تاريخ العالم، الذي اتخذ من ميلاد المسيح بداية له، لم تكن فيه سنة صفر، وأن العقد الأول من الألفية الأولى من التاريخ المعمول به بدأ من العام 1 وانتهى في العام 10، والعقد الثاني بدأ من العام 11 وانتهي في العام 20، وهكذا سرنا على هذا المنوال.
ويرجع سبب الاختلاف والتضارب أننا نفكر بمفهوم العقود، فالعقد الثالث من هذا القرن سيسمى بالعشرينات، وبالتالي ستكون الإحالة لبدايته في عام 2020 ونهايته بعد عشر سنين في عام 2029. ويطول الجدل ويستند أطرافه إلى دراسات مطولة أعدها باحثون متخصصون كتلك التي أعدتها روث فريتاج تحت عنوان «معركة القرون»، مشيرة إلى الجدل المماثل الذي دار حول عام 1900 باعتباره نهاية القرن التاسع عشر أم بداية للقرن العشرين. لكن في مثل هذا النقاش الذي يصطدم فيه الرأي العلمي بثقافة الناس السائدة، ومنهم من يكون له رأي شخصي يصعب تغييره، يكون الأجدى التوضيح الصريح بالمقصود زمنياً ببداية عقد ونهايته تفادياً لأي تضارب أو ارتباك.
وفي حوار مع ابنتي حول موضوع بدايات ونهايات العقود حولت الحديث لمسار مختلف وأكثر خلافاً بين العلماء والفلاسفة حول الزمن وعنصر الوقت في حياة البشر والكون. وأشارت إلى مقال يناقش كتاب عالم فيزياء الكم كارلو روفيللي الذي صدر العام الماضي بعنوان «نظام الزمن». وتصدرت المقال عبارة صادمة لغير المتخصصين بأنك إذا قرأت المعادلات الأساسية لعلوم الفيزياء المتقدمة في وصفها للكون لن تجد فيها متغيراً يعبر عن الزمن، وأنه رغم شعور الناس بالزمن فإنه لا وجود له، هكذا. الزمن موضوع مبهر عند البحث فيه كما يقول روفيللي؛ لأنه يلمس مشاعرنا بقوة فمع بدايته تبدأ الحياة وبمروره تنتهي الآجال وتتعاقب الأجيال والحقب حتى يوم البعث.
على أي حال، فإن حساب الزمن الذي تعارف عليه الناس يستند إلى تصورهم وإدراكهم لموقع الأرض من الكون وفي حركتها المنتظمة وثبات علاقاتها مع سائر أركان الكون الشاسع، بما يدفع للاعتقاد في حدود ما نعلمه إلى انتظام العالم. وأن هذا الانتظام له مسار من الماضي للحاضر إلى المستقبل ونربط هذا كله بعلاقات محكمة بأفعال ونتائج مقدرة لها.
ومع نهاية العقد تشير البيانات المتاحة إلى أن دول العالم، بما فيها الفقيرة، قد حققت تحسناً على مدار السنوات الماضية في تخفيض نسبة من يعانون من الفقر المدقع، باستثناء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تضم أغلب الدول العربية. كما انخفضت نسب وفيات الأطفال الرضع حول العالم، وطرأ تحسن في مؤشرات الأمراض المعدية والمتوطنة بفضل التوسع في سبل الوقاية وتوفير الأمصال واللقاحات، لكن ما زال يهدد تفشي الأوبئة أكثر الدول فقراً وهشاشة على نحو ما ظهر في أفريقيا جنوب الصحراء من حالات للإيبولا والكوليرا، وكذلك الحصبة بين الأطفال. ورغم التحسن في إحصاءات تسجيل التلاميذ بالمدارس فإن نصف أعدادهم في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، و90 في المائة من تلاميذ الدول الفقيرة يعانون من فقر التعلم. كما تشير أرقام البنية الأساسية إلى وصول شبكات الكهرباء لنحو 90 في المائة من سكان العالم، وإن حرم منها حتى اليوم 570 مليون أفريقي.
كما يعيش العالم عرضة للآثار المستفحلة لتغيرات المناخ الذي أصبح مجالاً للمزايدات السياسية والمظاهرات ضد التقاعس الحكومي بدلاً من التعاون الدولي في تحجيم تداعياته، خاصة أن مبادرات تسعير الكربون تتعامل مع أقل من 20 في المائة من الانبعاثات الضارة بالبيئة. وفي هذه الأثناء تتهدد حياة البشر والأرض والاقتصاد، ويذهب العلماء إلى أن مليوناً من أصل ثمانية ملايين من أنواع المخلوقات في البيئة مهددة بالاندثار في خلال عقود وبمعدلات غير مشهودة منذ بداية الخليقة.
وتعترض تطور الاقتصاد العالمي موجة عاتية من زيادة الديون العامة والخاصة؛ إذ زادت الديون إلى 170 في المائة من الناتج الإجمالي بعدما ارتفعت بمقدار 54 نقطة منذ عام 2010. وتعد هذه الموجة من تراكم الديون هي الرابعة في خلال الخمسين عاماً الأخيرة، وقد انتهت الموجات الثلاث السابقة بأزمات مالية في الكثير من الدول النامية والأسواق الناشئة ذاتها، على النحو الذي أشار إليه تقرير حديث للبنك الدولي. وعلى الدول التي توشك على الدخول في مرحلة خطر حرجة، أجلتها مؤقتاً انخفاضات أسعار الفائدة دولياً، أن تتخذ تدابير عاجلة للسيطرة على تفاقم الديون.
ومن الفاعليات المدرجة في عام 2020 ما سيشكل تطورات الأحوال للعقد الجديد. فهناك استحقاقات انتخابية في الولايات المتحدة سيكون لها ما بعدها، كما ستتضح معالم الشكل الجديد لأوروبا واتحادها بعد تطورات «بريكست». وبين الاقتصاد الأميركي والأوروبي سيكثر الحديث عن تهديدات بأزمات كساد قد يحدث، وتداعيات أسعار الفائدة السلبية وتأثير ذلك على الأسواق. كما سيشهد هذا العقد مزيداً من تحرك لمركز الجاذبية الاقتصادية تجاه آسيا، وسيكون لذلك آثار وتبعات جيوسياسية مختلفة. يشهد هذا العام سباقاً نحو المريخ بمحاولات متعددة تتبناها الولايات المتحدة وأوروبا والصين والإمارات العربية.
وفيما يعترض النظام الدولي متعدد الأطراف من يعترض، ستتجمع دول العالم في فاعليات رياضية مهمة باستضافة طوكيو الأولمبياد، كما ستحتفل هذه الدول بمرور 75 عاماً على تأسيس الأمم المتحدة، وستشارك في معرض «إكسبو 2020» في دبي وفي قمة المناخ الحاسمة في غلاسكو، كما سيجتمع قادة الاقتصادات العشرين الأكبر في قمة الرياض. ويشهد العقد المقبل بداية العد التنازلي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وفقاً لبرنامج 2030، الذي تشهد تنفيذه تحديات في عالم شديد التغير بما يتجاوز ما اعتادته عدادات الزمن.
وفي كل الأحوال، لا تغير نهاية عام أو بداية آخر من حياة الناس ما لم يغيروا من أنفسهم، فقد يتعهدون ببدايات جديدة، وقد يربطون هذه التعهدات ببداية العام الجديد، وقد يتعلقون بالآمال لتحقيقها، ومن الآمال ما قد يكون خطراً على صاحبها إذا ضللته عما يمكن تحقيقه فعلاً، وجعلت من الغرض المنشود عدواً لما قد يتيسر إنجازه، أو أصابته بإحباط غير مبرر، أو جعلته يهيم على وجهه على غير قصد أو مأرب.