إميل أمين
كاتب مصري
TT

المناخ العالمي ورصاصة الرحمة

هل أطلقت واشنطن رصاصة الرحمة الأخيرة على أحوال المناخ العالمي بإعلانها رسميا الانسحاب من الاتفاق العالمي لمكافحة تغير المناخ؟
مثير القرار الرسمي الأميركي، وإن كان غير صادم، فقد بدا واضحا أن الرئيس ترمب ومن قبل أن يدلف إلى البيت الأبيض ينتوي الانسحاب من ذلك الاتفاق، والذي يرى أنه مجحف بالنسبة لبلاده، ويدعم القوى الاقتصادية الدولية المناهضة لا سيما الصين.
تتأتى الإثارة من أن عملية الانسحاب والتي تستغرق نحو عام تجيء على بعد أيام قليلة من محادثات الأمم المتحدة حول تغير المناخ لهذا العام، والتي ستعقد في مدريد في ديسمبر (كانون الأول) القادم، بعد تراجع تشيلي الأسبوع الماضي عن استضافة المحادثات بسبب الاحتجاجات التي تجتاحها.
لماذا ارتجت الأمم من جراء هذا الانسحاب الأميركي، إلى درجة وصف البعض الخطوة بأنها مغامرة أميركية تفوق قرار غزو العراق في العقد الأول من القرن الحالي وإهانة ذكية للمجتمع الدولي، والأمر الذي يضع الأساس لحرب عالمية ثالثة؟
باختصار غير مخل الجواب متعلق بأحوال المناخ العالمي الآخذة في التردي، والتي تظهر علاماتها في الآفاق في حاضرات أيامنا، وقد تمثَّلت الطامة الكبرى للعيان في الأسابيع والأشهر الأخيرة من خلال انفصال كتل جليدية من الأقطاب الشمالية والجنوبية ما يرفع منسوب المياه حول العالم ليغرق اليابس، عطفا على ظواهر قتلت بحثا من عينة الاحتباس الحراري، والتصحر، وارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية.
قبل أيام وخلال مؤتمر الطاقة الذي عقد في بيتسبرغ تحدث الرئيس ترمب وسط عشرات العاملين بخوذاتهم الصلبة قائلا: «إن اتفاق باريس من شأنه التضييق على المنتجين الأميركيين بالقيود التنظيمية المبالغ فيها بشكل لا يصدق، في حين يسمح للمنتجين الآخرين بالتلويث دون عقاب».
يدرك القاصي والداني أن معركة ترمب الحقيقية مع الصين، وهي التي قصدها بكلماته.. «ما لن نفعله هو معاقبة الشعب الأميركي، في حين يراكم الملوثون الأجانب الثروات».
هذا هو مفهوم ترمب عن «أميركا أولا»، وهناك من يرى أن ساكن البيت الأبيض له في الحق ألف حق، ذلك أن الإمبراطوريات تمشي على بطونها وليس الجيوش فقط كما أشار إلى ذلك نابليون بونابرت ذات مرة، بمعنى أنه كلما توافرت الموارد الاقتصادية، استطاعت الدول بلورة ملامح ومعالم استراتيجية لقطبيتها وامتدادها خارج حدودها الإقليمية، الأمر الذي ينطبق على الصين بنوع خاص، إذ تسخر فوائضها المالية الهائلة كنوع من الردع النقدي، والذي يعقبه دون أدنى شك مرحلة تالية من المواجهات النووية أو التقليدية.
نجح الرئيس ترمب في واقع الأمر وخلال ثلاث سنوات في الوصول إلى نتائج اقتصادية هائلة تتسق وسعيه لأن تعود لأميركا ريادة اقتصادية حول العالم، ومن دون السعي في طريق «شرطي العالم أو دركه»، يشهد على ذلك رواج الأسهم في أسواق البورصة الأميركية، ووصول نسبة البطالة في البلاد إلى 3.5 في المائة وهي الأدنى منذ 50 عاما، كما أن ارتفاع أسعار السلع والخدمات في الداخل الأميركي مسيطر عليه بدرجة كبيرة جدا، لا سيما أن سعر غالون المحروقات لا يتجاوز 2.5 دولار، وهنا فإن النجاح الاقتصادي يضحى معديا وبخاصة على أبواب انتخابات رئاسية ثانية.
من بين اللوبيات الداعمة لترمب في الداخل الأميركي لوبي الفحم، ولا يزال الفحم أكبر مصدر لتوليد الكهرباء في الولايات المتحدة، كما أن صادراته آخذة في الازدياد المطرد. ورغم تراجع إنتاج الفحم في التلال الخضراء بمنطقة اباليشيا، إلا أنه يتنامى في المناجم المفتوحة بولاية «وايومنج»، وأسفل سهول ولايتي إلينوي وإنديانا، وفي الإجمال يتوقع أن يظل إنتاج الفحم بالولايات المتحدة ثابتا نسبيا في العقود الثلاثة المقبلة، حسب الإدارة الأميركية لمعلومات الطاقة.
هنا ربما يضحى من نافلة القول الإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين لوبي الفحم ومجمع الصناعات العسكري الأميركي، وضلعه الثالث في الكونغرس والذي يمثله السيناتور «ميتش ماكونيل» زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، والمقاتل الصنديد دفاعا عن مناجم الفحم في الداخل الأميركي، ولا يوفر المرء التأكيد على التبرعات غير المحدودة التي يدعم بها هذا اللوبي كافة السياسيين الأميركيين، في ديمقراطية وصفها بعض السياسيين بأنها «تباع على الأرصفة»، في إسقاط لا تغفله العين على قضية المساهمات المالية المقدمة للمرشحين، من أصغر عمدة مدينة وصولا إلى الرئيس ومقام الرئاسة، ودورها في رسم السياسات الأميركية الاستراتيجية، وهي قضية مثار خلاف بين الأميركيين في الداخل.
لكن على الجانب الآخر يذهب المعارضون من الأميركيين أنفسهم للانسحاب من الاتفاق إلى أنه يضر بريادة الولايات المتحدة العالمية في التحول إلى اقتصاد أقل تلويثا للبيئة، لحساب نجاحات روسيا والصين وغيرهما من دول العالم.
يمكن لانسحاب ترمب على المدى القريب أن يدعم الاقتصاد الأميركي، لكن ماذا عن الرؤية الكونية لكوكب يئن تحت ضربات التغيرات المناخية، و1.4 مليار نسمة على عتبة الجوع من جراء الانفجار الإيكولوجي القادم لا محالة؟
من يرحم أمنا الأرض...