الذهن المكدود المهدود المحدود: لا ينفسح لرؤية المساحات الكبيرة والمسافات البعيدة والآفاق الرحيبة. بل إنه ليرى الصورة الكبيرة جدا في حجم جحر الضب أو جحر النمل. فالقروي الذي لم يخرج من قريته قط: إذا حدثته - مثلا - عن طوكيو أو نيويورك: ارتسمت في ذهنه صورة هذه المدينة أو تلك: مثيلة لأوسع باحة يتجمع فيها الناس أو يلعب فيها الصبيان في قريته المحدودة!! فغالبا ما يقيس الناس ما لا يعرفون على ما يعرفون.. وبالانتقال من المحسوسات إلى عالم المعاني والمفاهيم: تعجب أبو جهل من (فسحة المساواة) التي جاء بها الإسلام ليسوي بين البشر فيما ينبغي المساواة فيه، وقد عبر أبو جهل عن تعجبه بقوله: ((يا محمد أتجعلني أنا والذليل ابن سمية سواء؟)) - يقصد عمار بن ياسر -. فقال النبي - بهدوء وثقة -: ((وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ)).
تلك الأمثال نتخذها مدخلا لموضوع مقالنا اليوم.
لقد جاء النبي الخاتم محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وآله وسلم - بـ(رسالة عالمية): تستغرق المكان كله (الكوكب الأرضي)، والزمان كله: منذ البعثة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والبشرية كلها: أسودها وأبيضها وألوانها جميعا.
ولم تطرأ (عالمية الإسلام) في المدينة بعد أن هاجر النبي وأصحابه إليها، وبعد التمكن وإقامة الدولة. ذلك أن (القرآن المكي) قد تحدث عن هذه العالمية بوضوح كامل:
أ - ففي سورة ص – وهي مكية - نقرأ: ((إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)).
ب - وفي سورة سبأ – وهي مكية - نقرأ: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)).
ج - وفي سورة الأنبياء – وهي مكية - نقرأ: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)).
د - وفي سورة الأعراف – وهي مكية - نقرأ: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)).
وهذه أجمع آية في (عالمية الإسلام).
ولقد نهض النبي بهذه المهمة العالمية.. وتمثل نهوضه صلى الله عليه وآله وسلم في القول والفعل أو التطبيق:
1 - فقد قال: ((أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي)) ومن بينها ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة)).. وفي روايات أخرى للحديث: وبعثت إلى كل أحمر وأسود.. قال ابن الأثير: أراد بالأسود والأحمر: جميع العالم.. والعرب تسمي الأبيض أحمر.
2 - في مجال الفعل والتطبيق: بعث النبي رسله، وكتب رسائله إلى زعماء العالم في عصره يدعوهم إلى الإسلام كما أمره ربه عز وجل.
هذه حقائق قاطعة ساطعة عن (عالمية الإسلام).
ولكن يبدو أن أذهان المسلمين المعاصرين أو أذهان أكثرهم قد ضاقت – مثل ذهنية أبي جهل وذهنية ذلك القروي - حتى بدا الإسلام وكأنه دين المسلمين وحدهم، أو رسالة للعرب ومن والاهم.. ومن هنا ارتعب – مثلا - خلق كثير من المسلمين من شعار أو مصطلح (العولمة) بحجة الخوف على الهوية الوطنية أو القومية.. نعم. في العولمة – بمفهومها الغربي - نقائص تقر بها أو تخلطها بمفهوم الاستعمار أو التغريب أو بسط النموذج الغربي – في التفكير والحياة - على سائر أمم الأرض. بيد أن هذا خطأ في التكييف والتطبيق لا ينبغي أن يسحب على (مبدأ العالمية) الذي هو جوهر العولمة الصحيحة في تقديرنا.
إن العالمية – بالمفهوم العلمي المضبوط - ليست – في الأصل - كيدا سياسيا دبرته جهة معينة. نعم. إن إرادة السيطرة والهيمنة واقع لا ينكر. وهذه الإرادة تستغل مفاتح العالمية الصحيحة استغلالا غير عادل، وغير نزيه، وغير أخلاقي، وغير مسؤول.
ما هي مفاتح العالمية الصحيحة؟
هي (العلم والتقنية). فالانفتاح العالمي وتعدد جسوره، وتنوع قنواته إنما هو نتاج التقدم العلمي والتقني: في وسائل المواصلات، كالطيران الذي قرب المسافات، واختصر الوقت، ووسع فرص الاختلاط بين الأمم.. ونتاج – كذلك - للتقدم في وسائل الاتصالات كالصحافة والإذاعة والتلفزيون، ثم وسائل الاتصال الاجتماعي – بفنونها المتنوعة -.. ونتاج – أيضا - لأنهار المعلومات المتدفقة بلا جزر ولا انقطاع.. وهذه كلها أو معظمها وسائل خطت بالاقتصاد (الاستثمارات والمبادلات والتجارية والخدمات العالمية المختلفة) خطوات هائلة.. والبشرية في هذا الميدان تتقدم دوما ولا تنتكس قط. فمن المشي بالأقدام إلى ركوب الحمير والإبل إلى ركوب القطار، إلى امتطاء الطيران.. ومن الصياح بالصوت العادي، إلى مكبر الصوت إلى المذياع إلى الفضائيات التي تنقل الصور والكلمات فيتساوى في مشاهدة البرنامج الواحد – في ذات اللحظة - جميع الذين لديهم أدوات التقاط في دول العالم كافة.
إن الذين يريدون الانغلاق – بمقتضى نظرة متعسفة إلى الوطنية، والذين يريدون أن يقاتلوا في معركة انسحاب من هذه العالمية العلمية.. هؤلاء يتعين عليهم – قبل ذلك - أن يعادوا التقدم العلمي وأن يقاوموه، وما بمستطيعين المقاومة ولو حاولوا!!!
وبمقتضى منطق منهج الإسلام: لا داعي لهذه المحاولات قط.
فهذا الدين العالمي (الإسلام) قد هيأ مناخات (العالمية الصحيحة الواعدة) بأسس متينة سبقت وسائل التقدم العلمي التي جعلت البشرية كلها تعيش في (صالون كبير) وهو الكوكب الأرضي.
ما هي هذه الأسس أو البنى المتينة؟
1 - بنية (وحدة الجنس البشري) كله: ((وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)).
2 - بنية (التنوع الكوني) في إطار وحدة الجنس البشري. وهو تنوع نحسب أن نسميه (التعددية الكونية العالمية الأوسع والأرسخ).. ومنها:
أ - (التعددية الكونية العالمية) في الألسنة والألوان: ((وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ)).. فهذا التنوع في الألوان واللغات دليل على بديع خلق الله سبحانه، ولا يصح أن يكون – من ثم – ذريعة للتفرقة العنصرية.
ب - (التعددية في المناهج والنظم): ((لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)).
ج - تعددية القوميات والشعوب بصورة تدعو إلى (التعارف العالمي) بين هذه القوميات: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)).
ولقد جد من القضايا والهموم المشتركة ما يعزز عرى (العالمية الإنسانية).. ومن هذه القضايا:
أ - التعاون الإنساني العام على حماية بيئة الكوكب مما يفسدها.
ب - التعاون على كل ما يحفظ كرامة الإنسان وحريته ومسؤوليته.
ج - التعاون على مكافحة وباء الإرهاب.
د - التعاون على إنقاذ الفقراء من الجوع والمرض والبؤس: دون تفرقة دينية أو عنصرية.
هـ - التعاون على بناء سلام عالمي تتمتع به الأمم والدول كافة.
أين المسلمون من هذه المسؤوليات العالمية؟
إنهم لن يتصوروا هذه المسؤوليات ولن يتمثلوها – شعورا وعملا - إلا بعد استشعار حقيقة أن الإسلام رسالة عالمية يتوجب عليهم أن يكبروا معها، لا أن يضغطوها وفق أذهانهم المكدودة المحدودة، ولا أن يصغروها لتتناسب مع أحجامهم الهزيلة.
8:37 دقيقه
TT
رسالة محمد العالمية: صغرها المسلمون بدل أن يكبروا معها!!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة