عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الشعب في مواجهة {أم البرلمانات}

المشهد الصاخب في أم البرلمانات هذا الأسبوع، بدا غريباً ربما لم يعتده البعض، من غضب وصياح، ورئيس برلمان خرج عن اللوائح والتقاليد، ومعارضة تتهم رئيس الوزراء بوريس جونسون باستخدام تعبيرات تحريضية.
الخبير بتاريخ الديمقراطية البريطانية يدرك أن النظام السياسي في البرلمان والمرافعات في المحاكم هي مواجهات خصمية، ومجلس العموم بطبيعته منقسم حكومة ومعارضة والانفعال الحماسي ليس بجديد.
كثيرون يذكرون التصويت على حرب العراق في 2003 واستقالة وزير الخارجية وقتها روبين كوك (1946 - 2005) متهماً رئيس حكومته توني بلير بتضليل النواب حول أسباب دخول الحرب.
أما التصويت على حرب الفوكلاند في 1982 فكان أكبر نزاع تشهده وستمنستر أثناء حكم المحافظين 1979 - 1997.
في 1976 تفجر نزاع بين حكومة العمال (1976 - 1979) بزعامة جيمس كالاهان (1912 - 2005) والمعارضة بزعامة مارغريت ثاتشر (1925 - 2013) وازداد هياج نوابها وقفز مايكل هزلتاين الدرجات (وسمته الصحافة طرزان) ليختطف الصولجان الذهبي رمز وجود التاج في البرلمان (ولا يحق لأحد لمسه سوى «الحارس المسلح»)، وقيد زملاؤه حركته، بينما أنشد نواب إمارة ويلز «الراية الحمراء» شعار نشيد حزب العمال، فرفع رئيس البرلمان جورج توماس (1909 - 1997) الجلسة وحرم هزلتاين من الحضور بقية الدورة البرلمانية.
ويذكر جيلي جلسة وستمنستر الصاخبة بعد أزمة حرب السويس في 1956 التي انتهت باستقالة رئيس الوزراء أنطوني أيدن (1897 - 1977).
والتناقض كبير بين الصورة النمطية عن البرود الإنجليزي في الأزمات، وسخونة الجدل السياسي في الحلبة الكبرى لاتخاذ القرارات في وستمنستر.
في 1920 احتدت المناقشة حول وجود القوات البريطانية في آيرلندا؛ وهاجم النائب المحافظ جون مولسون، النائب جوزيف ديفلين من الحزب البرلماني الآيرلندي، ساحباً إياه من فوق المقاعد. وبينما صاح البعض «اضرب الوغد» سارع بقية المحافظين بسحب مولسون إلى خارج القاعة. وعوقب بالإيقاف لأنه عبر الخط الأحمر المحيط بالبساط الأخضر في قاعة مجلس العموم.
ومن زار المجلس أو شاهد لقطة من الكاميرات العليا أثناء نقل الجلسات سيشاهد الخط الأحمر المحيط بالبساط.
البساط الأخضر يفصل بين مقاعد الحكومة على يمين منصة الرئيس ومقاعد المعارضة على يسارها، ويحدهما خطان أحمران، المسافة بينهما قدرت بألا تسمح بتلامس سيفين ممتدين يمسك بكل منهما خصم من الجانبين. فوضع القدمين وراء الخط الأحمر من شروط آداب المجلس وتخطيه يعرض النائب للعقاب.
وهو أصل التعبير الإنجليزي بالالتزام والتعليمات toe the line أي بقاء أصابع القدم وراء الخط ومقابله بالعربية «الالتزام بالخط» أو «عدم تجاوز خط أحمر».
ولا تزال لافتة القرن الثامن عشر معلقة عند مدخل النواب إلى المجلس «على النواب ترك سيوفهم هنا» بجانب مشاجب لتعليق السيوف التي لا يحملها اليوم أحد، باستثناء Serjeant At Arms (كبير مسؤولي الأمن) ومساعدوه وهم حراسة مستقلة عن الجيش أو البوليس ويتبعون إدارياً حامل العصا السوداء Black Rod وكسلطة تابعة للملكة في وستمنستر، يسمح لهم بحمل السيوف.
واستخدم السيرجنت - آت - آرمز السيوف تهديداً لا عملياً - لطرد بعض نواب العمال في 1931 عندما رفض زميلهم جون ماكغفورن إطاعة رئيس الجلسة إدوارد فيتزروي بمغادرة القاعة لتجاوزه الخط الأحمر.
الضجة التي أثيرت هذا الأسبوع كانت حول استخدام رئيس الوزراء لعبارة «وثيقة الاستسلام» و«قرار الخضوع» مساء الأربعاء لما عرف بـ«قانون بن» القرار البرلماني الذي صاغه نواب بزعامة النائب هيلاري بن يلزم الحكومة بطلب تمديد فترة بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي في حالة عدم التوصل إلى اتفاق. كرر جونسون استخدام العبارة كوشاح أحمر يلوح به لثور هائج مما زادهم غضباً لمقارنتهم في الذاكرة الوطنية بمحاولة المهادنين في 1939 و1940 التوصل إلى صفقة خنوع مع هتلر.
وعندما طالبت زعيمة حزب الديمقراطيين الأحرار جوزيفين سوينسون رئيس الحكومة بالاعتذار عن إجازة البرلمان المطولة التي أنهاها قرار المحكمة الأعلى supreme court كنقض لقرار المحكمة العليا high court أعاد جونسون المقارنة بتذكير البرلمان كيف أنها اتصلت برئاسة المفوضية الأوروبية، طالبة منهم اتخاذ موقف متشدد من بريطانيا، وتوجيهها نوابها في البرلمان الأوروبي بالتصويت ضد بلادها.
وكان جونسون قال إنه رغم احترامه لقرار المحكمة فإنه يعتبره خطأً. وكما ذكرنا في الأسبوع الماضي فإن تدخل المحكمة السامية في التطورات الإجرائية البرلمانية يناقض الدستور البريطاني غير المكتوب.
ويرى القاضي (بدرجة مستشار ملكي) أندرو نيوكوم قرار المحكمة إخلالاً بالتوازن الدستوري واستيلاء على الحق الدستوري للتاج (أي الملكة) كالمؤسسة الوحيدة التي يحق لها حل البرلمان، وفق المادة التاسعة من إعلان 1688 للحقوق المدنية، وهو بجانب «الماغنا كارتا» (1215) يعتبران أهم مرجعية دستورية في البلاد. وللاستيلاء على سلطة ليست من اختصاصهم تعمد القضاة الخلط بين الإجراءات البرلمانية proceeding وبين القرار البرلماني. فأوامر الملكة الموجهة للمجلس لا تنفصل عن الإجراءات البرلمانية مما يضع الأمر خارج اختصاص القضاء؛ وهو أيضاً تفسير كثير من الجهات القضائية مما يدعم رئيس الوزراء في عدم الاعتذار واتهامه النواب البقائيين بتدبير «وثيقة الاستسلام» التي اعتبرها نكوصاً عن الوعد للناخب.
فالنواب يريدون عرقلة الـ«بريكست» ويلقون بالاتهامات ضد رئيس الوزراء مستخدمين عبارات كـ«ديكتاتور علبة صفيح» و«بلطجي سياسي» في قاعة البرلمان، دون أن يجرؤ زعيم المعارضة وكتلة البقائيين على التقاط قفاز التحدي الذي ألقاه جونسون بقوله: «اطرحوا سحب الثقة مني ومن حكومتي إذا لم تعجبكم سياستي».
والواقع أنه بجانب التلاعب بالإجراءات البرلمانية كحيلة للتسويف وإبقاء البلاد في الاتحاد الأوروبي فإن البقائيين بزعامة رئيس البرلمان لديهم هدف أكثر إلحاحاً، وهو تجنب إجراء انتخابات عامة يعرفون أن معظمهم سيفقد فيها مقاعدهم.
فالشعب البريطاني بطبيعته لا يثور، لكنه يعبر عن الغضب والاستياء من حكومته في شكل انتخابات تنسحق فيه الحكومة كما رأينا في تصويت الـ«بريكست» في 2016. وانتخابات البرلمان الأوروبي هذا العام، وانتخابات 1997 التي عاقب فيها الشعب حكومة جون ميجور (1990 - 1997) وكان علق البرلمان قبلها كي تتجنب حكومته المسألة حول اتهامات فساد ورشوة، وقبلها عاقب الشعب الحكومة العمالية في 1979 على تخريبها للاقتصاد.
السبب في الأزمة أن المؤسسة الحاكمة ترفض قبول الواقع بأن الشعب صوت ضد إرادتها. شعبية رئيس الوزراء جونسون ارتفعت إلى أعلى مستوى لها، حيث يبدو مدافعاً عن إرادة الشعب الذي إن آجلا أو عاجلاً سينزل العقاب بالطبقة الحاكمة في صناديق الاقتراع.