سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

التقرير الذي لم يُقرأ

ربيع 1994، سقط في رواندا ما بين 500 ألف و1.2 مليون قتيل بالسواطير ما بين القبيلتين اللتين يتألف منهما البلد، الـ«هوتو» والـ«توتسي». كان الدكتور بطرس غالي أميناً عاماً للأمم المتحدة عندما وقعت المجزرة الرهيبة. وصرت كلما التقيته بعد ذلك، ومن دون أن أطرح عليه أي سؤال، يتحدّث طويلاً في مرارة وندم عمّا وقع في تلك الدولة الأفريقية. وأعتقد أن المرارة بلغت به أنه فكّر في إنشاء قوة دولية عسكرية تضاهي القوى في الدول الكبرى، من أجل الحيلولة في المستقبل دون مذابح مرَضية من هذا النوع وبهذا الحجم الرهيب.
صدرت عن المجزرة كتب كثيرة ووُضعت كتب كثيرة أيضاً. والآن نقرأ أنه قبل بدء المجزرة بأيام، بعث الكولونيل الكندي «روميو دالامير»، رئيس القوة الدولية في العاصمة كيغالي، بتقرير إلى كوفي أنان، قائد قوات الأمم المتحدة في العالم، يقول فيه إن الدولة الرواندية التي تسيطر عليها أكثرية الـ«هوتو»، تستعد لإبادة جماعية لأفراد قبيلة الـ«توتسي»، وكل من يعترض على ذلك من المعتدلين الهوتيين. استند الكولونيل دالامير في تقريره إلى تفاصيل وضعها بين يديه مُخبِر لدى رئيس الجمهورية، شعر فجأة بالخوف وتأنيب الضمير ولم يطلب لقاء الإخبارية سوى الحماية له ولعائلته.
وصل التقرير إلى كوفي أنان بالفاكس. ولا يعرف أحد حتى الآن إن كان قد اطلع بطرس غالي عليه، أو ماذا حدث له في الدائرة العسكرية في نيويورك. ما يعرفه العالم هو أن مئات الآلاف من الناس كانوا يُذبحون لمجرّد انتمائهم القبلي، فيما كان العالم برمّته مأخوذاً في جدل تافه حول علاقة الرئيس الأميركي بيل كلينتون، بالمتدرّبة مونيكا لوينسكي. ألم تكن الأسرة الدولية دائماً على هذه الدرجة من الخبث والتجاهل الإجرامي؟ سُجّلت مجازر رواندا في أرشيف المنظمة الدولية إلى جانب غيرها. كابوس لا شبيه له في حجم اللؤم البشري، لا يوجد من يتحمل مسؤوليته. ولم يكن ذلك الخطأ الوحيد الذي ارتكبه كوفي أنان في مراحله الوظيفية، أولاً كقائد للقوات الدولية، ومن ثم أميناً عاماً خلال دورتين.
قضيتان بقيتا دون جواب قاطع في تلك المرحلة: رواندا ومونيكا. وقد دخل المدّعي الخاص الأميركي نيوت جينجريتش إلى غرفة نوم بيل كلينتون وفتّش في خزائنه بحثاً عن أدلّة دامغة، وبقيت رواندا تصنع النعوش من أي خشب متوافر على الطرقات. الحمد لله على أن المنتصر في الذاكرة هو عنصر النسيان. لقد نجحت رواندا إلى حد بعيد في تناسي ما لا يُصدّق أنه حدث فعلاً. فهو لتوحّشه، يبدو فعلاً مجرد كابوس لم يحدث في الواقع.