سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

ديكتاتورية «غوغل» الخفية

أحد لن يعلم على وجه الدقة لماذا شلت جزئياً خدمة «فيسبوك» و«واتساب» ومعهما «إنستغرام» لساعات في مناطق عديدة من العالم، يوم الأربعاء الماضي. وهي المرة الثالثة، خلال هذه السنة السوداء على مارك زوكربيرغ، الذي يبدو أنه ربط التطبيقات بعضها ببعض فجاءت أعطالها جماعية، ووقعها على المستخدمين عصياً، لا سيما المعلنين الذين ينالون الصفعة، ولا يجدون من يجيبهم، كيف تدفع لهم تعويضاتهم؟ ولا كيف تحتسب خسائرهم؟
الأهم أنها مناسبة يكتشف خلالها المستخدم، كيف أنه رهن نفسه، لجهة باتت قادرة على التحكم بكثير من تفاصيل حياته الحساسة. ومع تقدم السنوات، وبدء العمل بإنترنت الأشياء، سيصبح المرء مرهوناً بالكامل، لهذه الشركة العملاقة أو تلك. فمع وقوع عطل كالذي شهدناه منذ أيام، لن يتمكن الإنسان من إنارة منزله أو فتح شباكه أو باب بيته، وسيحرم ربما من الماء الساخن والغاز، وكل ما يحتاجه في يومه. ومن المفيد، لتصور غدنا، الذي لا نعرف على أي نحو سيكون، الذهاب أبعد إلى لحظة تصبح أجهزة الاستشعار جزءاً من الدماغ. وهذا ليس مشهداً مستعاراً من أفلام الخيال العلمي. فالتوقعات أن الهواتف الجوالة التي صارت قطعة من أرواحنا وامتداداً لأصابعنا، هي إلى زوال محتوم، وستحل مكانها نانوات صغيرة تلتصق على أجسادنا أو تعلق على جلودنا، تتلقى التعليمات من مجرد تفكيرنا بالأمر، لتنجزه على الفور. وللتأكيد على أننا لا نقول جزافاً بما لا نعرف، فإن «إيرباص» بدأت العمل على مقاعد لطائراتها المستقبلية مجهزة بحيث تستطيع تحليل هوية الراكب الجالس عليها في ثوانٍ معدودات. ويفترض أنها ليست الشركة الوحيدة التي تستفيد من كل البيانات التي تجمع حولنا «إنترنتياً» منذ أكثر من عقدين، لتستخدمها في التعاطي مع الركاب وحفظ الأمن، كما إرضاء الأمزجة وربما تزويدك بالطبق المفضل لديك دون أن تطلب ذلك.
وبالعودة إلى زوكربيرغ الذي يجرجر في المحاكم، ويستدعى أمام البرلمانات، ويهاجم في الصحف، ويوصف بأقسى النعوت بسبب قبضه على بيانات أهل الكوكب الشخصية واتهامه بالتفريط في الأمانة، بيعاً أو استغلالاً، فإنه يكاد يكون نقطة في بحر «غوغل» من حيث الخطورة التي لا يتحدث عنها أحد. هذه الشركة المحبوبة الهادئة، الرصينة، المثقفة، التي لا يثار حولها غبار ولا يعلو حولها ضجيج، باستثناء الحذر الصيني الذي وجد طريقه إلى الحل، وبعض الاعتراضات الصغيرة على سلوكها هنا أو هناك، لها من السطوة على أهل الكوكب ومن العلاقات المثيرة للريبة ما يفوق صاحب «فيسبوك» بكثير.
شركة «غوغل» التي تعرف عنك ماذا تقرأ، وعم تبحث، وما الذي تشتريه، وأي أخبار تستهويك، وأي مقطع من كتاب تريد، وإلى أي جهة تحب أن تسافر، وما صحيفتك المفضلة، ومكتب السفريات الذي تتعامل معه، والأشخاص الذين تراسلهم، وماذا تقول لهم، وما اللغات التي تترجم منها، وأي نوع من المعلومات، وأي مواد وصور تحب الاحتفاظ بها على سحابتها، والألعاب التي تسليك، والأفلام التي تحضرها، والأهم مواعيدك التي تبرمجها. هذه الشركة لا بد تعرفك بحميمية تكاد تفوق تلك التي تتقاسمها مع الشريك.
معلوم أن «غوغل» تسترت طويلاً على طبيعة شراكاتها المخابراتية، وخدماتها العسكرية ولمن تقدمها، ليتبين أنها منذ نعومة أظافرها ممولة من جهات حكومية أميركية. وإذا صدقنا دوغلاس إدواردز، أول مدير تسويق في «غوغل» فإنه يقول إن المستثمرين الرئيسيين في الشركة هما الـ«سي آي إيه» ووكالة شقيقة تابعة لها «إن جي آي»، وكذلك وكالة الفضاء «ناسا». و«غوغل» قدمت خدمات جليلة للجيش الأميركي، وكان لها دور أثناء حرب العراق الشهيرة ضد صدام حسين، وهي تزود القواعد الأميركية هناك بحاجتها من أدوات الذكاء الصناعي، وكانت من أهم من غذى بالبيانات الذكية وكالة الاستخبارات الأميركية. ومما يقوله الرجل إن «غوغل» كانت دائماً حريصة على السكوت عن هذه الأدوار، والشراكات الاستثمارية الضخمة، وتوصي العاملين فيها المطلعين على أسرارها، بعدم ذكر هذه التفاصيل أمام عملائها كي لا تثير الريبة في نفوسهم. ونقرأ تفاصيل عن «غوغل» تثير الرعب في كتاب «التاريخ العسكري للإنترنت» للصحافي ياشا ليفين. وإن كانت «غوغل» قد أعلنت مؤخراً، تبييض سجلها وتوبتها، يبقى أنه لا شيء يعود إلى الصفر، حين تكون الذاكرة الإلكترونية هي بيت القصيد.
«غوغل» أدهى بأشواط من الشركات العملاقة الأخرى، لأنها أكثر من يسخّر المستخدمين، دون علم منهم، لتطوير نظامها الذكي، من خلال نقراتهم. فهم يحسّنون خدمة الترجمة بما يقدمونه من تصحيحات، ويغذون المحرك ويدلونه على الأفضل كلما زادت أبحاثهم، حتى الأحرف الغامضة التي يطلب إلينا أن نكتبها لإثبات أننا مخلوقات بشرية ولسنا روبوتات، يبدو أنها مرتبطة ببرنامج حاذق نقوم نحن بتغذيته من خلال هذا النقر الذي يطلب إلينا أن نقوم به. ومن يتعمق في البحث عما نخضع له من أضاليل وخداع من أناس يختبئون وراء الشاشات النظيفة الزرقاء التي توحي بالصفاء، والنقاء، وتحض على الاسترخاء، لا بد يشعر بخيبة كبيرة، وخوف أكبر من غد، حقاً، لن تكون الحرب فيه على الأرض. إذ بمقدور هذه الديكتاتوريات التي تتمدد كأخطبوط كوني أن تفعل بنا ما تشاء. ولو وضعت كل ما جمعته عنك «غوغل» طوال الإحدى والعشرين سنة السابقة من عمرها، جانباً، وفكرت فقط بأن رجال الـ«سي آي إيه» يبصبصون عليك من «غوغل إرث» ويتتبعون خطواتك حتى داخل بيتك، ويحصون أنفاسك في سباتك، لا بد ستشعر أن فرائصك ترتعد، وقلبك يخفق بلا رحمة. «غوغل» الدمثة قليلاً جداً ما نسمع عن أعطالها، ربما لأن استثماراتها أعظم، وهي محتضنة ومحمية أكثر من «فيسبوك».