حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

«لا أحد يصدق ادعاءاتهم»

بات يوم 23 يونيو (حزيران) الحالي، يوم إعادة الانتخابات على منصب رئيس بلدية إسطنبول، بمثابة اليوم التاريخي في مسيرة الرئيس التركي رجب إردوغان. مارس كل الضغوط وكل التدخلات لإلغاء نتائج انتخابات رئاسة بلدية أكبر المدن التركية، بالزعم أن «مخالفات وتلاعباً ارتُكبت بشكل منظّم»، متجاهلاً أن حكومته هي من نظّم الانتخابات، فادّعى أن «العملية برمّتها كانت غشاً»، وعندما فشلت ألاعيب إعادة احتساب الأصوات اعتبر أن الفارق القليل (أكثر من 15 ألف صوت) لا يُعتدّ به لتحديد الفائز، ليفرض إعادتها، فيما اعتُبر رسالة إلى الناخبين مفادها أن إعادة الانتخابات تحولت إلى استفتاء على شخصه وقيادته لتركيا!
قرر إردوغان إحداث ردّات فعلٍ سلبية كبيرة من جانب الناخبين الذين أُصيبوا بالخيبة وبينهم كثر كانوا من معارضي الفائز، لأنهم وجدوا في القرار افتئاتاً على رأي الناس وقرارهم الحر، وما مهزلة إعادة احتساب الأصوات المتكررة والإصرار على إلغاء نتيجة التصويت إلاّ عملية قرصنة للمنصب من جانب الحزب الحاكم بعدما كانت صناديق الاقتراع أكدت أن إكرام إمام أوغلو استحقّه عن جدارة.
هناك قول معروف لإردوغان أن من يسيطر على مدينة إسطنبول سيحكم تركيا، لأن هذه العاصمة الاقتصادية التي تضم 16 مليون مواطن بينهم نحو 9 ملايين مقترع، فيها يتحدد اتجاه البلاد وبوصلة الحكم. من هذه الخلفية يمكن فهم لماذا لم يتقبل إردوغان فكرة خسارة حزبه المدينة ووقوعها في يد خصومه، وبالتحديد في يد أبرز شخصية سياسية مؤهلة للمنافسة على الرئاسة بعد سنوات قليلة.
في إسطنبول العاصمة الفعلية لتركيا تُنفق مليارات الدولارات سنوياً، وفيها المشاريع الكبرى على اختلافها، ومن خلالها شرّع حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي في إسطنبول نظام غنائم جرى وضعه بتصرف الحزب الحاكم، وقد ازدادت الحاجة إليه مع الأزمة الاقتصادية التي تضرب الاقتصاد التركي، وفي هذه المدينة تتم أكبر الأنشطة المشبوهة لرجال الأعمال المقربين من الرئيس، كما أفراد أسرته. وما كان ترشيح بن علي يلدريم أبرز رجال الرئيس للمنصب، وهو الذي شغل أبرز المناصب مثل رئاسة الوزراء والبرلمان، إلاّ من أجل تفادي الخسارة لأنها ستطيح بهذه الميزات، ومع فوز إمام أوغلو المنافس الذي يملك كاريزما استثنائية في التواصل مع الناس يكون قد تهيّأ المنافس الجدي على الرئاسة التركية.
ردُّ فعل الرئيس التركي على الهزيمة كان لافتاً بتوجيه التُّهم المستفزة إلى الناس مثل قوله: «نُشبع بطونكم ولا تصوتون لنا»، وعندما بلغه أن الجماهير المحتشدة فوق مدرجات ملاعب كرة القدم هتفت لإمام أوغلو قال إردوغان: «بنينا هذه الملاعب كي تؤيدوا أعداء تركيا!». وسرعان ما انتقل الرئيس المعروف بميوله السلطوية والاستبداد إلى اعتماد سياسة انتخابية جديدة. بات شبه مقيم في مقر الحملة الانتخابية في إسطنبول وأطلق سياسة مدِّ اليد للجمهور وإغداق الوعود، والهدف أن ينسى الناس أن إمام أوغلو ضحية انقلاب على الديمقراطية. نزل إلى الشارع، أخذ القطار وتحدث مع الناس وابتسم للأطفال وساعد كبيرة في السن في أثناء نزولها، وجال في ميدان «تقسيم»، ورد على التحيات وتحادث مع بائع كستناء عن الزبائن والبيع والشراء، وانتقل إلى شارع الاستقلال وحيّا كثيرين، وعندما عاد أدرك أن الحشد الذي التفّ حوله وواكب جولته كان على العموم من رجال أمن الرئيس وحرسه، فيما الناس عموماً انصرفوا عنه لأعمالهم.
كانت أمام إردوغان تقارير وصور وفيديوهات عن جولات متلاحقة يقوم بها مرشح المعارضة إمام أوغلو الذي التفّت حوله شرائح واسعة من مختلف سكان إسطنبول: رجال الأعمال والتجار وأصحاب الحرف والفنانين... إلخ، رجال ونساء وشباب بشكلٍ خاص، والكل يهرع للسلام عليه وهو الذي يواظب على الالتقاء بالناس مباشرةً في الشوارع والأسواق كما في الأحياء الشعبية والأزقّة الضيقة ومدن الصفيح التي تحيط بأهم مدن تركيا. وكانت أمامه ملخصات عن مئات التجمعات التي أُقيمت تحت شعار: «لا أحد يصدق ادعاءاتهم» ويتحدث فيها أوغلو عما يواجه الناس ويشدد على أنهم وحدهم الحَكَم ومَن يملك القرار بالتغيير، ويردد مع الجميع العبارة التي باتت على كل لسان: «كل شيء سيصبح جميلاً جداً».
هناك اعتقاد لدى الناخبين في إسطنبول أن أوغلو ضحية انقلاب على ما أفرزه صندوق الاقتراع، وبعد كل المسيرة السياسية لتركيا والتقلبات التي يدفعها إليها الحكم الفردي والتسلط ترسخت قناعة لدى العامة أن التطاول على نتائج الانتخابات يُهدد بطيّ ما بقي من ديمقراطية ويأخذ تركيا إلى مسار تسلط مكشوف واستبداد، ولا يخفي إردوغان نياته بإقامة «عثمانية جديدة» ستكون لو نجحت مقبرة لمبدأ تداول السلطة ونهاية لعصر التنافس الانتخابي في تركيا. هذه الاعتبارات سلّطت الضوء على البديل فاجتذبت حملة أوغلو أعداداً كبيرة من المتطوعين تجاوزت الآن الـ150 ألف متطوع، فيما كان دون الـ20 ألفاً خلال الحملة الانتخابية التي أُلغيت نتائجها... وهكذا لا يجد الحزب الإسلامي الحاكم إلاّ إطلاق حملات التجريح والتشويه والتخوين والإعداد ما أمكن لعمليات تزوير وشراء ذمم يوم الانتخابات، باعتبار أنه من خلال السلطات الواسعة التي يملك، هو الجهة المنظمة والمشرفة على كل العملية. غير أن المعطى الإيجابي يتمثل اليوم في ارتفاع نيات التصويت وانفضاح مرامي تملق الناخب التركي، الأمر الذي من شأنه إفشال عمليات التزوير الحاصلة حتماً.
في مقابل الحيوية التي أطلقها أوغلو وقد بات من اليوم الشخصية السياسية التي ستنافس على الرئاسة التركية، هناك شخصية باهتة لمنافسه بن علي يلدريم الذي لم ينجح في الخروج من ظلِّ إردوغان، وفي كل سلوكه يعطي الانطباع أنه الشخص الذي أُجبر على الترشح فقط لأن إردوغان قرر ذلك، وهو الذي اعترف في زلّة لسان فاضحة: «اضطررت للقول إنهم (المعارضة) سرقوا أصوات الناخبين»! فهل يحمل يوم 23 الجاري الأرقام التي تؤشر إلى بدء أفول صفحة حكم «الإخوان المسلمين» لتركيا؟