عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«الكتاب الأسود» على صفحة «هواوي ـ غيت»؟

أول سيدة وزيرة للدفاع في تاريخ المملكة المتحدة؛ أبوها سماها على اسم الفرقاطة الحربية «بينولوبي» التي أصيبت في المعارك البحرية دفاعاً عن البلاد، على أن تعرف باسم التدليل «بيني موردان»؛ دخلت مكتبها في دراما سياسية بحبكة شكسبيرية أرغمت رئيسة الوزراء تريزا ماي على التعديل الوزاري مساء الأربعاء.
سابقها، غافين ويليامسون، أضفت الصحافة الملامح الميكيافيللية على شخصيته منذ أعوام، رغم أننا كصحافيين، وضعناه في قائمة «المفضلين» لأنه يجيب دائماً على التليفون.
كان ويليامسون حليفاً لماي في وصولها «داوننغ ستريت»، بإبعاده المنافسين في أعقاب استفتاء 2016 الذي أدى لاستقالة ديفيد كاميرون بعد رفض الناخب خطته بالبقاء في الاتحاد الأوروبي.
كان ويليامسون وقتها كبير «حملة السياط» (chief whip)، أي الوزير البرلماني المسؤول عن سلوك وانضباط نواب الحكومة. مكتبه ومنصب وزاري آخر، رئيس الأغلبية (أو زعيم مجلس العموم)، يحددان أجندة العمل البرلماني اليومي.
«الكرابيج» (مكتب السياط) جزء من فلكلور وستمنستر، بنشاط يحيط به غموض الأساطير، وحكايات عن وجود أدوات «تعذيب» لإرغام النواب المتمردين على الخضوع لزعامة الحزب.
المكتب زواره نواب لا صحافيون، ولن يعترف حامل السوط بدوره أو النائب بالذنب الذي «جلد» سياسياً بسببه؛ أو قد يبالغ فيما تعرض له من ضغوط، والغموض يزيد من عنصر التشويق في القصة الصحافية.
الكرباج هو «الكتاب الأسود»، كملف عن سلوك النواب من انزلاقات أو علاقات عاطفية أو مواقف مخزية؛ «تسريبها» أو «إخفاؤها» عن الصحافة وسيلة ابتزاز برلمانية.
لم يعترف أحد بوجود «الكتاب الأسود» سوى الإشارة إليه في الحلقات التلفزيونية الساخرة «نعم يا معالي الوزير» (1980 - 1988)، وأيضاً كإكسسوار في مسرحية «برلماننا هذا» في 2012؛ كتسجيل ساخر لما دار واقعياً من تدابير تآمرية بين مكتبي «الكرابيج» في الحكومة والمعارضة في الأسابيع التي لفظت فيها حكومة «العمال» (1974 - 1979) أنفاسها الأخيرة، وسقوطها بصوت واحد في جلسة سحب الثقة منذ أربعين عاماً هذا الشهر.
تآمر المكتبان لتوازن الأصوات بإرغام النواب على الحضور، وأحدهم مرة بنقالة الإسعاف من المستشفى والأدوية موصلة بأوردته. فالتصويت في «أم البرلمانات» يتم فقط بالمرور في ردهتي «نعم» أو «لا».
ويليامسون، الذي فرقع السوط فوق رؤوس النواب، كافأته السيدة ماي على مساعدتها في انتزاع الزعامة، التي كانت في متناول ساسة أكثر شعبية وكفاءة منها، بتعيينه وزيراً في أحد أهم المناصب الأربعة؛ المالية والخارجية والداخلية والدفاع.
ارتفعت شعبية ويليامسون وزير دفاع، سواء بين مكاتبها أو بين الجنود في الخطوط الأمامية، لمطالبته علناً بزيادة الميزانية العسكرية التي أنقصتها عشر حكومات متعاقبة، وانتقد المحاكمات التي يتعرض لها الجنود المتقاعدون، بجانب شعبيته بين الصحافيين.
في المقابل، اصطدم باستمرار مع مؤسسة تفضل السرية وحجب المعلومات، ومع وزير المالية. وكررت الخزانة اتهامه بتزويد الصحافيين بمعلومات عن اقتطاعها من الميزانية العسكرية.
خصومته الأكبر كانت مع السير مارك سيدويل، السكرتير الدائم لمجلس الوزراء، وهو منصب تابع للدولة، ويلتزم سياسياً بتنفيذ تعليمات رئيسة الوزراء، لكنه إدارياً ودستورياً يتبع التاج لا الحكومة. شاغل المنصب ثابت لا يتغير بتبدل الحكومة، بعكس حال وزير شؤون مجلس الوزراء المنتخب. يمكن لرئيس الحكومة توسيع صلاحيات السكرتير الدائم أو إنقاصها، باستثناء صلاحياته الدستورية كرئيس للسلك الوظيفي للدولة كاملاً.
في خطوة غير مسبوقة جعلته ماي مستشاراً للأمن القومي، بجانب الإشراف على قطاع الدفاع، حتى العام الماضي، عندما أقنع ويليامسون المجلس ورئيسة الوزراء بفصل الدفاع عن صلاحيات سيدويل.
إطاحة ماي بالحليف القوي تشير إلى عجز السياسة الهادئة، التي أدارت بلاط وستمنستر لقرون طويلة، عن التعامل مع وسائل المعلومات الحديثة السريعة.
إقالة وزير تكون تقليدياً في شكل استقالة بترتيب مسبق يحفظ ماء الوجه بتبادل خطابات الشكر بين رئيس الحكومة والوزير المستقيل.
خطاب الإقالة الموجه إلى ويليامسون خرق التقاليد كالأكثر قسوة في تاريخ وستمنستر المعاصر، باتهامه بتسريب معلومات اجتماع مجلس الأمن القومي، المكون من رئيسة الحكومة ومستشار الأمن القومي ووزراء الدفاع والداخلية والخارجية ورؤساء المخابرات.
استدعت ماي، ويليامسون، إلى مكتبها في البرلمان مساء الأربعاء، وطلبت منه الاستقالة، لأن التحقيق الإداري الذي أجراه السير مارك سيدويل، بدوره سكرتيراً دائماً لمجلس الوزراء (وكان أصر على فحص كل «جوالات» من حضروا الاجتماع ليعرف اتصالاتهم)، أشار إلى مسؤوليته عن تسريب اجتماع مجلس الأمن القومي للصحافة.
لكنه بعد مهلة تفكير فاجأها برفض الاستقالة «لبراءته من التهمة ولتقيله إذا لم تصدقه».
كانت بداية الدراما عشية إجازة عيد الفصح بنشر «ديلي تلغراف»، «تجاهل رئيسة الوزراء نصيحة المسؤولين عن الأمن» بالتحذير من التعاقد مع شركة «هواوي» الصينية لتوريد أجهزة تشغيل شبكة «الفايف جي» (5g) للاتصالات السريعة.
حلفاء كالولايات المتحدة الأميركية وأستراليا وكندا، حرَّمت حكوماتها على شركات الاتصال فيها تركيب أجهزة «هواوي»، لأن القوانين الصينية تجبرها على التعاون مع وكالات الاستخبارات الصينية، التي قد تحصل على معلومات أمنية حساسة من أجهزة «5G».
واشنطن هددت بقطع التعاون الاستخباراتي مع لندن إذا استخدمت الأجهزة الصينية.
ويليامسون تحادث بالفعل مع صحافيين، لكنه مصر على أنه لم يكن مصدراً مباشراً. الصحافي لا يفصح عن مصادره.
طريقة عملنا في وستمنستر، جمع معلومات من الثرثرة على مأدبة أو مشروب مع نواب أو وزراء، أو ما يصيب أسماعنا من شظايا حديث مجاور، ثم نملأ الثغرات بإجابات «لف ودوران» غير مباشرة من وزير أو مسؤول (وهو ما كان دور ويليامسون) لإكمال النسيج لحياكة الخبر الصحافي، لكن بصياغة إيحائية تتيح للمصدر نفي دوره بمصداقية.
مراسلة «سكاي» في وستمنستر، الزميلة إليزابيث ريغبي، فاجأت رئيسة الوزراء، أمس (أثناء مقابلة في افتتاحها مؤتمر الربيع للمحافظين في إمارة ويلز)، بطلب «نيابة عن ويليامسون» بالاطلاع على نسخة من تحقيق السير مارك سيدويل.
ماي كعادتها دارت وماطلت، ولم تجب عن السؤال.
ويليامسون صديق للصحافيين، وغالباً في جعبته نسخة من «الكتاب الأسود» الأسطوري، لن يهدأ حتى يثبت براءته من دم ابن «هواوي»، ويتهم سيدويل بتلفيق التهمة.
المعارضة تريد سكب دم الحكومة على بساط وستمنستر الأخضر، مطالبة بالتحقيق البوليسي طالما أن إقالة الوزير تتعلق بالأمن القومي.
الحظ، حالف تيريزا ماي 5 مرات في 3 أعوام، قد يتخلى عنها هذه المرة، ليتيح لـ«هواوي - غيت» فرصة كـ«ووترغيت» التي أطاحت الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة، قبل أربعة وأربعين عاماً.