سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

فرس أسوان

عرضت «العربية» في برنامج «مهمة خاصة» يوميات رجل من أسوان يملك إلى العيش سبيلا واحدا: فرسا يؤجرها للسياح. بدت الفرس جميلة ونظيفة ونشيطة، رغم كل مظاهر الفقر الأخرى. بيت محفور في الطوب مثل أيام سكان أسوان الأوائل، وغسيل منشور على حبل قصير في الخارج، وصاحب الفرس والبيت والثياب المعلقة، لا يملك سوى الجلابية الداكنة التي كان يرتديها أحمد فؤاد نجم. داكنة لأنها تتحمل البقاء طويلا دون أن ترسل إلى المصبغة. (أمزح طبعا). أصحاب مثل هذه الجلابيات يغسلونها في الترع ويعلقونها تنشف أمام بيوت الطوب.
تحدث الرجل صاحب الفرس الجميلة والجلابية الداكنة فقال، إن الفرس هي كل حياته وحياة عائلته ومصدر دخلهم الوحيد. شخرت الفرس كأنها تؤكد على كلامه وعلى شكواه. قال الرجل إن الذين قتلوا السياحة في مصر زادوه فقرا وأمعنوا في إذلاله. لا أحد في المكان. لا غرباء. الجميع خائفون. الذين كانوا يأتون إلى مصر بعشرات الآلاف جاءوا يشاهدون طلاب «الإخوان» في الأزهر يطلقون النار على الشرطة. من يريد المجيء إلى مصر؟!
قتل المتشددون السياحة في مصر وقتلوا معيشة الآلاف من أمثال الرجل ذي الجلابية الداكنة صاحب الفرس. أرسل محمد مرسي إلى الأقصر محافظا تقوم فلسفته في الحياة على أن الآثار عيب، والسياحة عار، وثروة مصر التاريخية يجب أن تدفن تحت الرمال حيث كانت.
نظريا، هذا كلام قابل للنقاش. فمهما كان الجهل مغلقا يظل هناك أمل بأن يفيق ذات يوم. لكن عمليا، هناك ثروة هائلة تذر في الرمال. والضحايا ليسوا فقط أصحاب الفنادق الفخمة والمراكب السعيدة، بل الشعب الكثير الذي مثل صاحب الجلابية والفرس. إذا طال غياب السياحة في مصر يصبح صعبا أن تعيش من جديد. تلغى عن خرائط الرحلات وتعتاد الناس على أماكن أخرى.
كانت بورسعيد، في القرن الماضي، المدخل إلى الشرق وبوابة ألف ليلة وليلة. ميناء يعج بالناس وبالمرتزقين من القادمين. ثم تطور السفر جوا فضعفت بورسعيد حتى غابت. لم تعد على خريطة أحد. الذين يعرفونها نسوها والذين لا يعرفونها لم تعد هناك حاجة لأن يفعلوا.
النسيان ظلم. كان وسط بيروت يعج بالناس مثل بورسعيد إلى أن حولوه إلى ساحة اعتصام. هجرته الناس إلى أماكن أخرى. صار «وسط» بيروت في أحياء بعيدة. هو اليوم مهجور مثل أسوان، أو أكثر، والخاسرون هم أصحاب الفنادق. ولكن أيضا بسطاء الجلابيات، والمساكين الذين لا تعرفهم.