أصاب عنوان كتاب «فلسطين ذاكرة أقوى من النسيان»، فلم يُجانب مؤلفه، فيصل أبو خضرا، الصواب. من المهم القول إن الكاتب ليس محترف وضع كتب، وتأليف روايات، لكنه شُغِف بالسياسة صبياً، ثم صارت همّه اليومي، مثل معظم أترابه الفلسطينيين، منذ أُجبر على الرحيل عن مرتع الصبا بحي النزهة اليافاوي. ولم يحُل التفوق في عالم الأعمال - بعدما استقر مع أشقائه سهيل، وسعد ورشيد، في المملكة العربية السعودية، وحملوا جنسيتها - دون الاهتمام بالشأن السياسي، خصوصاً الفلسطيني، ومعه نما الشغف بالكلمة، فصار النص المكتوب رئة يتنفس بها للتعبير عن موقف، أو توصيل رسالة لمن يهمهم الأمر، وتحديداً كبار القيادات الفلسطينية، في مختلف التنظيمات، ممن جمعته وإياهم صداقات كان أساسها الاحترام المُتبادل.
كما يحصل مع كل كاتب وكاتبة سيرة ذاتية، أو مقتطفات منها، الأرجح أن فيصل أبو خضرا، واجه السؤال الصعب: ما الذي يُكتب للنشر على الملأ؟ وما الذي يجب أن يبقى أسير سجن الأسرار؟ وحده المؤلف يملك الإجابة الأوضح عن ذلك السؤال، لأنه الوحيد الذي يعرف ماذا أخفى، بعد كل ما كشف. مع ذلك، يبقى أن ما تزيح الستار عنه صفحات «فلسطين ذاكرة أقوى من النسيان»، يحمل أهمية قصوى، خصوصاً في أوقات صعبة تمر بها فلسطين وسوريا ولبنان، ومنطقة الشرق الأوسط عموماً.
ضمن هذا السياق، يمكن القول إن المكشوف عنه مما تتضمن ذكريات المؤلف، يسلّط من الضوء الكاشف ما قد يعين على فهم خلفيات بعض مجريات أحداث سنوات العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، أي ما أطلق عليه وصف «الربيع العربي». في مدخل الحديث عن لقاءات جمعته بزعماء وساسة عرب، يأخذ فيصل أبو خضرا قراءه إلى أول لقاء له مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. يروي أن اللقاء جرى صحبة نبيل خوري، الصحافي الكبير، الذي كان أسس معه مجلة «المستقبل» في باريس، بعدما اشترى فيصل أبو خضرا امتيازها اللبناني سنة 1982، التي تحقق لها حضور مهم، وتألق على صفحاتها عدد من كبار نجوم الصحافة العربية زمنذاك. يقول الكاتب إنه حاول في ذلك اللقاء التوسط بين الرئيس الأسد والعميد ريمون إدة، بعدما التقى في باريس «الصديق ريمون إدة، الزعيم الماروني الأصيل، ذا اليد النظيفة والديمقراطي الحر، وضد إسرائيل حتى العظم، والمؤيد دون حدود للقضية الفلسطينية»، الذي «كان على قناعة تامة بأن الرئيس الأسد يريد رأسه». ينفي الرئيس السوري في ذلك اللقاء أنه يريد أي شر بالعميد إدة، ويرحب باستقباله في دمشق شرط أن يصل إليها من بيروت، مع «استعداد لتأمين الحماية اللازمة له، إن كانت لبنانية أو سورية أو فلسطينية». ملاحظة كاشفة. نقل أبو خضرا ترحيب الأسد إلى العميد إدة، لكن العرض قوبل برفض فوري لأن السياسي اللبناني، باختصار، لم يكن يثق بالرئيس السوري، الأمر الذي استاء منه الوسيط فيصل، لسبب بسيط هو أن العميد إدة وافق في الأساس على مبدأ الوساطة.
في لقاء ثانٍ، يروي حافظ الأسد للكاتب تفاصيل مهمة بشأن التنسيق مع أنور السادات قبل خوض حرب 1973، ثم عن آخر اجتماع جرى مع الرئيس المصري قبل زيارته إسرائيل. يقول الأسد إن السادات أخل بوعد عدم توقيع اتفاق سلام منفرد مع تل أبيب. ويلتقط فيصل أبو خضرا ملاحظة لافتة، هي أن الرئيس السوري كان طوال الحديث يشير إلى الرئيس المصري باسمه «أنور» فقط. في صفحات تالية، يأخذ الكاتب قراءه إلى لقاءات مع الرئيسين ياسر عرفات، ومحمود عباس، ولقاء مصادفة مع الرئيس جورج بوش الأب، بعد انتهاء ولايته، على متن طائرة بين طوكيو وبكين، وكذلك لقاء جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين في بيت «صديقي الحميم محمد البسيوني سفير مصر في تل أبيب»، جرى خلاله حوار ساخن مع رابين حول حقوق الفلسطينيين التاريخية، واستعان فيصل خلاله بما وُثّق في «العهد القديم»، حتى أن الجنرال رابين سلّم لفيصل قائلاً: «يظهر أنك تعرف التوراة أكثر مني».
«فلسطين ذاكرة أقوى من النسيان» كتاب سوف يفيد المؤرخين، سواء الآن أو في الزمن الآتي. يضاف إلى ذلك أن مقالات فيصل أبو خضرا، التي تضمنها الكتاب، والتي يتركز معظمها على الشأن الفلسطيني، تتجاوز مجرد إبداء موقف ذاتي إلى تضمينها ما استخلصه الكاتب من لقاءاته السياسية الكثيرة. جهد توثيقي مهم جدير بالقراءة، ويستحق التقدير.
8:2 دقيقه
TT
ذاكرة لا تنسى
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة