د. صالح بن محمد الخثلان
أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود
TT

استراتيجية لهزيمة «الخمينية الطائفية»

في مقاله المنشور في هذه الصحيفة، الثلاثاء الماضي (29 يناير/ كانون الثاني)، تحت عنوان «كي نهزم الخمينية الطائفية»، دعا الدكتور حمد الماجد الدول العربية المتضررة من النفوذ الإيراني إلى القيام بمراجعة شاملة لاستراتيجية الصراع مع طهران ترتكز على تهدئة النزاعات السياسية «البينية» في المنطقة. وانطلق في هذه الدعوة من عدة افتراضات؛ أولها أن الحكومات الغربية غير جادة في إنهاء الهيمنة الإيرانية على عدد من دول المنطقة، ما يعني أن تعتمد الدول المتضررة على نفسها، والافتراض الثاني أن استراتيجيات الصراعات تقوم على «تحييد المخالف وتجسير العلاقات معه، وتمتين العلاقة مع الموافق وتثبيتها وتعزيزها».
وإذ نتفق مع الدكتور بشأن هذه الافتراضات، ونعتقد أن طبيعة وحجم التدخلات الإيرانية تقتضي جهداً جماعياً، ومن دونه لا يمكن ضمان نجاح أي جهد يبذل مهما توافر له من إرادة وإمكانات، إلا أن لنا عدة وقفات مع هذا الدعوة.
(الوقفة الأولى)، افتراض وجود استراتيجية عربية للصراع مع إيران، والحاجة إلى مراجعتها، وهذا افتراض يصعب إثباته. فباستثناء بيانات جماعية من خلال «الجامعة العربية» ومجلس التعاون أو ثنائية تصدر من حين لآخر، فلا وجود لأي وثيقة مكتوبة أو حتى حديث شفهي عن استراتيجية عربية جماعية لمواجهة إيران. غياب هذه الاستراتيجية التي يدعو الدكتور الماجد لمراجعتها يعود إلى سبب في غاية الأهمية، وهو ما نبيّنه في الوقفة الثانية من هذه الدعوة.
(الوقفة الثانية)، قبل بناء استراتيجية مشتركة لمواجهة تهديدٍ أياً كان مصدره لا بد أن تتفق الأطراف المشاركة على وجود التهديد وضرورة مواجهته. ولو قمنا بدراسة مسحية لمدركات التهديد (threat perception) لجميع دول المنطقة، فلن نجد اتفاقاً حول طبيعة التهديد الإيراني. فهناك دول لا ترى في سلوك طهران تهديداً (تركيا وعمان) ودول متعايشة مع التدخلات الإيرانية لأسباب تتعلق بأولوياتها وتتمثل في: مصر التي تعطي الأولوية للتهديد التقليدي من الشمال، وتأمين منابع النيل، وخطر عدم الاستقرار على حدودها الغربية، والكويت وضرورة مراعاة ضغوط التوازنات التي تفرضها تركيبتها الداخلية وموقعها الجغرافي بين قوى الخليج الثلاث، والإمارات التي رغم حقها الثابت في الجزر الثلاث ومطالباتها المدعومة من جميع الدول بإنهاء الاحتلال الإيراني لها، إلا أنها تفصل هذا عن علاقاتها التجارية والاقتصادية مع إيران. وأخيراً الأردن، الذي ورغم أن الملك عبد الله الثاني كان سبّاقاً في التحذير من هلال شيعي، إلا أنه لا يرى سبيلاً غير الحوار مع إيران، كما جاء في مقابلة أجريت معه في دافوس العام الماضي.
دول أخرى ترى في إيران مصدر قوة (قطر وسوريا)، أما دول شمال أفريقيا فرغم أنها تضررت من التدخلات الإيرانية، إلا أنها منصرفة بالكلية عن انشغالات دول المشرق ومخاوفها. إذن لم يتبقّ سوى ثلاث دول هي السعودية والبحرين والحكومة الشرعية في اليمن، التي ترى في تدخلات إيران تهديداً حقيقياً، وتجمع على ضرورة مواجهته. بالطبع لا ننسى إسرائيل التي يرى رئيس حكومتها في إيران خطراً وجودياً.
إذن من دون وجود إدراك مشترك للتهديد الإيراني لا يمكن تصور صياغة استراتيجية مشتركة لمواجهته.
(الوقفة الثالثة)، الدعوة لمواجهة التغلغل الإيراني تفترض أن هذا التغلغل يعكس إرادة أحادية من طهران، والواقع أن مسببات موضوعية كان لها دور أكبر في تمكين إيران (احتلال العراق والربيع العربي)، ولكن لا يقل أهمية ما يمكن تسميته «الممكنات المحلية» التي سهلت لطهران هذا التغلغل، وأقصد بذلك قوى محلية تنطلق بالدرجة الأولى من مصالحها «الذاتية» في تمكين إيران من التغلغل في دولها، وهي لا تقتصر على تلك المرتبطة عقائدياً بإيران كـ«حزب الله» في لبنان والكم الكبير من الميليشيات في العراق، بل هناك قوى علمانية وجدت في التحالف مع طهران خياراً لتعزيز نفوذها المحلي ضد منافسيها، ومثال على ذلك علاقة بعض القيادات المسيحية في لبنان مع طهران، حتى لو كان ذلك على حساب علاقات لبنان مع أشقائه العرب وعلاقاته مع داعميه على الساحة الدولية. ولا شك أن الممكن المحلي المرتبط عقائدياً بإيران أكثر أهمية، ولا بد من أخذهم جميعاً بالاعتبار ضمن أي استراتيجية مواجهة.
أخيراً نقول إن مواجهة تدخلات إيران التخريبية تستوجب في البداية تقييم طبيعة هذه التدخلات، وحجمها، ودوافعها، وقراءتها في ضوء التركيبة المعقدة للنظام السياسي الإيراني، وضرورة أخذ هذه التركيبة بالاعتبار عند رسم أي استراتيجية مستقبلية للتعاطي مع إيران.
ورغم أني لا أحب أن أختم هذه السطور بعبارة متشائمة، إلا أنني أتساءل في حال اقتنعنا أن الحكومات الغربية غير جادة في مواجهة التغلغل الإيراني، وفي ضوء عدم وجود إدراك مشترك للتهديد الإيراني بين دول المنطقة، فهل توقع التخلص من هذا التغلغل أمر واقعي، أم أنه ضرب من التفكير الرغبوي؟