سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

حرب الجيل الخامس اشتعلت

الاتهامات المختلفة التي توجه إلى الآنسة مينغ وان تشو، المديرة التنفيذية لشركة «هواوي» العملاقة، وقصة توقيفها في كندا، مجرد حلقة في سلسلة الحرب المجنونة بين الصين وأميركا، المرشحة للتصاعد.
فقد بدأت الأخيرة تشعر بأن عليها أن تفعل المستحيل لكسب المعارك التقنية المتلاحقة التي تواجهها، وإلا فقدت دورها القيادي في العالم. ففي شهر أبريل الماضي نشرت و»كالة الأنباء الفرنسية» تقريراً يظهر بوضوح، بعد دراسة أجريت في عشر دول، أن الصين تحرز تقدماً بارزاً في تطوير الجيل الخامس للاتصالات، تليها كوريا ولا تأتي أميركا الا في المرتبة الثالثة. وتصنف دول أوروبا متأخرة عنها. وما بات معروفاً أن من يسيطر على تقنية هذا الجيل الجديد وتسند اليه التمديدات وتركيب اللواقط، ستكون له اليد العليا في مراقبة المعلومات، واختراق الشبكات، والوصول الى البيانات.
وكانت أميركا منذ ولد الكومبيوتر تحرك الكوكب بأزرارها. لكن التكنولوجيا الجديدة التي كرست لها كبريات الدول مئات مليارات الدولارات منذ ما يقارب الخمسة أعوام، أو ما يسمى «تكنولوجيا كل الأشياء» وعبرها سيتم التحكم عن بعد في السيارة والتلفزيون ومئات الأجهزة التي حولنا دون تدخل بشري، يبدو أن مفاتيحها صارت تمتلكها الصين قبل غيرها.
دخلت شركة «هواوي» الى 170 دولة، وشعرت دول أوروبية أنها مضطرة للاستعانة بها لتواكب العصر. فإذا كان الجيل الرابع، ولّد خدمات من مستوى «نتفليكس» و»أيربانب»، و»أوبر»، فإن الجيل الخامس من الصعب تصور ما سينتج عنه بعد وضعه قيد التشغيل. لكن المؤكد أن الصراع محتدم إلى حد جعل مؤسس موقع «علي بابا» الصيني العملاق، وأحد أثرى رجال العالم جاك ما، يحذر من حرب عالمية ثالثة بسبب هذا التنافس التكنولوجي الذي بلغ حداً هستيرياً. بل إن الرجل يرى الحرب التجارية بين بلاده وأميركا «أغبى شيء في هذا العالم»، لأن الصين تتحول لدولة مستوردة بعد أن كانت مصدرة، ولم تعد الصناعة توفر فرص عمل كالسابق، وبالتالي فالتكنولوجيا التي تتسبب بالصراع اليوم، هي التي ستحل مشكلة العجز التجاري خلال عقدين، وليس أي سبيل آخر.
لكن جاك ما يتحدث عن أمر تفكر أميركا في غيره. لبّ الصراع أن الصين استثمرت منذ عام 2013 أكثر من 200 مليار يورو لتكون السباقة، وتسعى لتشبيك 800 مليون مستخدم صيني في المرحلة الأولى، وستنتج هواوي التي تشغل 180 الف موظف، خلال العام الحالي أول تلفون من الجيل الجديد. وهناك في وادي السيليكون من بات يستشعر خطراً داهماً. وفي أوروبا الإحساس يتزايد بضرورة الاستفادة من أحدث ما يقدم في العالم، طالما أن القارة العجوز لا تزال بعيدة عن أمكانية الوصول في المدى القصير الى نتائج حاسمة. تشعر أوروبا ودول غربية أخرى بالحيرة بين الاستفادة من التطور الصيني وتجاهل مخاوف التجسس الذي لا بد ستكون بلاد التنانين قادرة عليه بسهولة في حال أعطيت مناقصات العمل في هذه الدول، أو الانتظار وبالتالي التأخر عن الركب. لغاية اللحظة تتمسك كندا بحقها في الاستفادة من التقنيات الصينية رغم أنها هي من اعتقلت مينغ في مطار فانكوفر.
والدول التي سارعت الى الرفض هي نيوزيلندا واستراليا واليابان، وتعبر ألمانيا عن خشية كبيرة، في ما اعتقلت بولونيا فريقاً من هواوي بتهم تجسس، وأوصدت الولايات المتحدة الباب بالكامل أمام «هواوي» و»زي. تي. إي» الصينيتين، وسعت بكل ما امتلكت من سطوة لمنع الصين من الاستحواذ على شركات رائدة تسهل لها مهمتها.
حرب غبية أم ذكية؟ هي في النهاية حرب شعواء تتسبب باعتقالات ومحاكمات وتبادل اتهامات، ورفع ضرائب بين الطرفين، ويصيب لهيبها أوروبا، وقريباً لن تنجو منها منطقة في العالم. تعود بالضرر على الجميع وتزيد من الرغبة في الانغلاق والتقوقع، في ما كان حلم التكنولوجيين وصل العالم وتحويل الإنسانية إلى جسد واحد. وهو ما سوف ينتصر حتماً في رأيهم رغم أن السياسيين لا يزالون في رؤيتهم، في كوكب منفصل عن الوقائع.
وما يشكو منه جماعة وادي السيليكون القلقين، أن فرض الضرائب على المستوردات الصينية سيجعل منتجاتهم أغلى سعراً وأقل تنافسية، لأنهم يحتاجونها لصناعاتهم. وهكذا تدخل القرارات السياسية أصحاب الأفكار والابتكارات في صعوبات لا يريدونها.
في النهاية هناك من يقول إن العالم لن يقاوم من يسبق إلى تطوير أي منتج حتى ولو تسبب له ذلك بكشف أسراره وربما ارتهانه. ففي الغواية التكنولوجية ما يجعل البشر يشعرون بالسحر أمامها، خاصة حين يكتشفون الجيل الخامس الذي يقال بأنه أسرع ما قد يصل إلى مائة مرة عما نعرفه اليوم، مما سيسمح بتحول جذري لوجه الحياة اليومية، لم يعرفه البشر من قبل.
وفي خضم هذه النار المشتعلة، والتنافس الشرس لا تزال دول عربية تشكو من بطء الجيل الثالث. وتحزن حين تقرأ تغريدة لوزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية في لبنان عناية عز الدين، تكتب من أسكوتلندا، وكأنها أي مواطن لبناني لا حول له ولا قوة: «على هامش الزيارة، الانترنت سريع بشكل مخيف في أدنبره، وهو متوفر بشكل مجاني في المدينة. عقبالنا». حقاً، مصائر الدول تقرأوها من طموحات مواطنيها. والعزائم الصينية يبدو أنها الأشد قوة في الفترة الحالية، لكن الحرب لا تزال في أولها.