بعد صدور بيانات الإنتاج الصناعي المخيبة للآمال أمس الثلاثاء، يمكن القول إن الاقتصاد الألماني قد يتجه صوب الركود التقني، إثر ربعين فصليين متتاليين من النمو السلبي. وتعتبر التقنية، رغم كل شيء، هي الكلمة المعبرة عن كل شيء، والبلاد لا تواجه مشكلة حقيقية، على الأقل حتى الوقت الراهن. وتأتي البيانات المثيرة للقلق نتيجة تعديل تنظيمي واحد أثار عاصفة هوجاء في صناعة السيارات المحلية.
سجلت الحكومة الألمانية انخفاضاً بنسبة 1.9 نقطة مئوية على أساس شهري في الإنتاج الصناعي، وهي أكبر نسبة انخفاض مسجلة منذ أغسطس (آب) لعام 2015. ويرجع جزء كبير من هذا التراجع إلى الانخفاض في إنتاج السلع الاستهلاكية بنسبة 4.1 نقطة مئوية، وهي نسبة كارثية لم تظهر من قبل خلال السنوات السبع الأخيرة. ويرجع السبب المرجح لهذا الهبوط إلى الانخفاض الهائل في مبيعات السيارات في البلاد. إذ تولد صناعة السيارات نسبة 20 في المائة من إجمالي الإيراد الصناعي المحلي، وتراجعت تسجيلات السيارات الجديدة في ألمانيا بنسبة 9.9 نقطة مئوية في نوفمبر (تشرين الثاني) لنفس الفترة من العام الماضي.
ويقلل هذا التطور من العوامل الأخرى التي حددت أرقام النمو الصناعي القاتمة في نوفمبر الماضي، والثغرة الملائمة فيما بين العطلة العامة وعطلة نهاية الأسبوع الأول من الشهر الحالي إلى جانب الأحوال الجوية الدافئة غير المعتادة والتي استلزمت إنتاجاً أقل للطاقة. كما ينشأ كذلك ما يسمى (الإجراءات العالمية المنسقة في اختبار السيارات الخفيفة)، وهو اختبار أوروبي جديد معني بالانبعاثات وصار إلزامياً اعتباراً من سبتمبر (أيلول) الماضي. وهو اختبار يتسم بدرجة أكثر صرامة من الاختبار القديم، ويستخدم بيانات القيادة الفعلية، بدلاً من المحاكيات المختبرية. ولم تكن الشركات الألمانية مستعدة على الإطلاق لمواجهة هذا الاختبار الجديد. إذ تعين عليهم التوقف عن عرض عشرات النماذج من السيارات الجديدة بسبب مشكلات في إصدار الشهادات وإعادة الضبط وفق الاختبار الجديد.
وتعتبر نماذج المحللين الحالية عاجزة تماماً عن التنبؤ بهذه الأضرار، وبالتالي واجهت ألمانيا سلسلة كاملة من المفاجآت الاقتصادية سلبية التأثير، بدءاً من النمو السلبي في الفصل الثالث من عام 2018. ويعد الربع الفصلي الأخير بأن يكون كارثياً، في ديسمبر (كانون الأول)، حيث انخفضت تسجيلات السيارات الجديدة بنسبة 6.7 نقطة مئوية على أساس سنوي.
إن إخفاق الشركات الألمانية في تطبيق (الإجراءات العالمية المنسقة في اختبار السيارات الخفيفة) الجديدة قد تسبب في مشكلات خطيرة في صناعة السيارات الألمانية. ولفترة طويلة من الزمن، حظيت تلك الصناعة بحماية سياسية جيدة في أثناء التعامل مع المعايير البيئية على اعتبارها مجرد مضايقات رقابية معتادة. وبعض الشركات، مثل «فولكس فاغن»، قد سددت بلايين الدولارات من الغرامات المالية بعد الكشف عن حالات الغش في اختبارات الانبعاثات لديها. بيد أن المشكلة الراهنة تتجاوز مجرد قضية شركة فولكس فاغن. إذ يتعين على شركات صناعة السيارات الألمانية كافة أن تتوقع المزيد من التشدد التنظيمي في الفترة المقبلة.
غير أن هذا لا يعني أن هناك أخطاء جوهرية خطيرة في الاقتصاد الألماني. فلقد كانت بعض المفاجآت الاقتصادية الأخيرة ذات سمة إيجابية رغم كل شيء. حيث تجاوزت الإصدارات الأخيرة من مبيعات التجزئة وثقة المستهلكين توقعات المحللين. وهبط مؤشر طلبات الشراء من المصانع بواقع نقطة مئوية واحدة، غير متوقعة، في نوفمبر بالمقارنة مع أكتوبر (تشرين الأول)، ولكن الطلبات من داخل ألمانيا ومن خارج منطقة اليورو كانت مرتفعة في واقع الأمر - بل كان الانخفاض واضحاً في الطلب من منطقة اليورو.
وبما أن شركات صناعة السيارات الألمانية سوف تتفق، إن عاجلاً أو آجلاً، مع (الإجراءات العالمية المنسقة في اختبار السيارات الخفيفة)، فإن التدهور الاقتصادي في منطقة اليورو لا يزال يمثل مشكلة طويلة الأمد. وبعد أن أنهى البنك المركزي الأوروبي برنامج التسهيلات الكمية في الشهر الماضي، فإن عصر الائتمان الوافر الرخيص هو إلى زوال. وبات «المركزي الأوروبي» نفسه يعتمد على الطلب المحلي القوي في المحافظة على اقتصادات منطقة اليورو من الانكماش، غير أن الاقتصاد الألماني الموجه نحو التصدير لا يزال ضعيفاً بعض الشيء: إذ إن ثلث الصادرات الألمانية موجهة صوب منطقة اليورو الأوروبية.
وحتى الآن، ظل الإجماع بين مختلف خبراء الاقتصاد أن النمو سوف «يتسق» بعد طفرة اقتصادية ممتدة. وفي تقرير صدر حديثاً، وصف المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية الدولة الألمانية القوية والمستقرة والمزدهرة، حيث تعمل الشركات، على نحو بطيء، بتوسيع القوى العاملة الأساسية لديها حتى في ظل حالة التباطؤ المؤقتة في التوظيف حالياً. وصارت دفاتر أوامر الشراء كاملة، في حين يتنامى الاستثمار المؤسسي بوتيرة جيدة. وبلغ مؤشر استغلال الطاقات، رغم انخفاضه بنسبة قليلة من العام الماضي، نسبة 87 في المائة (مقارنة بنسبة 78.5 في المائة في الولايات المتحدة). ويسمح فائض الموازنة الصحية للحكومة بدعم الاستثمارات وتعويض أي نقص ينشأ في نمو القطاع الخاص.
حظيت ألمانيا بمستوى مرتفع للغاية من الازدهار خلال السنوات الأخيرة. ولا ينبغي عليها تحقيق المزيد من النمو لأجل الحفاظ على ذلك المستوى، على اعتبار النمو البطيء في تعداد سكان البلاد. وسوف يستلزم الأمر وقوع جائحة اقتصادية في البلدان المجاورة لكي يؤثر سلبياً على النجاح الألماني. وحتى الآن، لا تشير البيانات من قريب أو بعيد إلى هذا الاتجاه. إذ ارتفعت تجارة التجزئة بنسبة 0.6 نقطة مئوية في منطقة اليورو في نوفمبر الماضي وفقاً لمكتب الإحصاء الأوروبي - وهي نسبة واعدة للمصدرين الألمان من دون شك.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
8:18 دقيقه
TT
ألمانيا والركود التقني
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة