عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الواقع وشعارات سد المنافذ

لم تمر ساعتان فقط على بداية هدنة إنسانية فجر الجمعة بين حماس وإسرائيل، إلا وسالت الدماء مرة أخرى ليدخل موسم الجنون يومه الـ25.
كلمة «الجنون» مقصودة.
ماذا فعل الطرفان ووفداهما في القاهرة للتفاوض لحل الأسباب المؤدية للقتال؟
تسلل حماسيون من أحد الأنفاق (مبرر إسرائيل للاستمرار) بأحزمة ناسفة فقتلوا وخطفوا جنديا.
وماذا فعل الإسرائيليون؟
قصفوا موقعا في الجنوب فأصابوا مدنيين (مبرر حماس).
الطرفان عن قصد أو عن غفلة (لا فارق فالنتيجة واحدة) استهدفا مبررات تدفع الخصم لاستئناف القتال.
أذكر لقاء مع السياسي الأميركي الراحل فيليب حبيب (مبعوث الرئيس ريغان للمنطقة في الثمانينات)، بضعة شهور فقط بعد تغيير اسم جماعة مسلحة إسلامية من «جماعة الإخوان المسلمين - فرع غزة» إلى «حركة المقاومة الإسلامية: ح. م. ا. س». قال حبيب: كل الجهود الدبلوماسية تهدف إلى إطالة الفترة ما بين حربين.
ملاحظة واقعية، وقت كانت المنظمات الفلسطينية تعمل لتحقيق أهداف وطنية محددة، طورت المطلب المثالي المجرد «بإلقاء اليهود في البحر» إلى الأمر الواقعي بحل الدولتين والتعايش بين فلسطين المستقلة وإسرائيل المستقلة.
كانت الأطراف التي تمول المجموعات الفلسطينية وتحركها معروفة، لها مبرراتها؛ من حيث أمنها القومي، فما بالك اليوم. ما يحرك المشكلات قوى من خارج المنطقة بدافع آيديولوجي كإيران، وأخرى بفائض نقدي لا يعرف حكام ماذا يفعلون به سوى مزاحمة الكبار وتعريض الأدمغة للصداع؟
وحركة أهدافها لا علاقة لها بالمشروع الوطني الفلسطيني.
منذ 1948 وتنظيمات لها «mission statement» أو (مهمتها النضالية) كمشروع استراتيجي تهدف لتحرير إرادة الشعب الفلسطيني وخلق مناخ إقليمي دولي لتمكينه قانونيا من الحصول على دولته المستقلة.
حركة تحرير فلسطين (فتح)، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، منظمة التحرير الفلسطينية؛ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين... الخ، اسم ومفهوم فلسطين في شعار وقلب وروح كل تنظيم.
اليوم حماس (الإخوان المسلمون فرع غزة سابقا) «حركة المقاومة الإسلامية».. أين اسم فلسطين؟
غاب عن اسم التنظيم وعن تعريف المهمة النضالية.
لا غرابة، فالفرع من شجرة جماعة الإخوان المسلمين.
فارق هائل بين المنظمات الفلسطينية قبل استيلاء حماس على غزة في انقلاب دموي واغتيال وسجن وطرد ممثلي الإدارة الوطنية الفلسطينية (وهذا أصلا سبب العزلة التي يشكو منها الحماسيون) وبين شعار دولة الخلافة.
اضطر ساسة السلطة الوطنية في رام الله (رغم إدراكهم تدمير ذلك لمكاسبهم السياسة المتواضعة وتعطيل التقدم نحو استقلال الدولة) إلى دعم حماس ونفاق السكوت عن انتقادها.
إدارة الرئيس محمود عباس، وقبلها إدارة الراحل الرئيس ياسر عرفات، كان لها أهداف استراتيجية تتفاوض تكتيكيا داخلها عن تبادل أراض مقابل مستوطنات، أو حلول وتعويضات حول عودة اللاجئين وغيرها. لكن ما هو الهدف الاستراتيجي لحماس؟
إطلاق بضعة صواريخ صنع إيران تعترضها القبة الحديدية مقابل مصرع مئات المدنيين في غزة، هل يصدق عاقل أنها ستحرر فلسطين؟
ولو افترضنا أن بنيامين نتنياهو، أو من يختاره الناخبون الإسرائيليون (مواطنون يهود أو فلسطينيون) هو إبليس نفسه، هل يمكن واقعيا أن يفاوض على تدمير دولته مثلما تعلن المهمة الجهادية لحماس علنا، ومهما ضغط الأميركيون عليه؟
ومثلما تساءل رئيس الوزراء ديفيد كاميرون يوم مناقشة الأمر في مجلس العموم البريطاني قبل أسبوعين: «المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار جاهزة، وقبلها الإسرائيليون لماذا لا تقبلها حماس؟».
وناشد عدد من النواب الإنجليز قطر وتركيا أن تكفا عن دفع حماس لرفض وقف إطلاق النار.
لا يوجد في تاريخ الحروب أن اشتملت مناقشات تستغرق سويعات قليلة، للتوصل إلى هدنة فورية (لحقن الدماء أو إنقاذ الجرحى أو إيصال الأدوية والطعام)، على مباحثات تتعلق بحلول دائمة، فهذه بدورها تستغرق أسابيع وشهورا، والمطلوب وقف إطلاق النار فورا.
يوم قدمت القاهرة مبادرتها لم يكن عدد القتلى من الجانبين وصل الثمانين بعد، وعشية هدنة الجمعة فاق عدد القتلى 1500 قتيل.
من المسؤول؟
أذكر القول المصري: «اللي إيده في الميه غير اللي إيده في النار»، فساسة تركيا وقطر لا يعيشون في غزة، وزعيم حماس خالد مشعل في مؤتمرات الصمود المتلفزة من الدوحة لا يتعرض للقصف المستمر.
وحتى لو قبلنا بتبريرات معتذري حماس، وأن رفع ما تسميه «حصارا» هو هدف تكتيكي - كلمة الحصار غير دقيقة، فغزة تحصل على مياه شرب ووقود وكهرباء بأسعار مدعومة من إسرائيل، ومنها تدخلها الأدوية والأغذية، ويذهب مرضى الحالات المستعصية الغزيون للعلاج في مستشفيات إسرائيل، فعن أي المعابر يتحدث هؤلاء؟
هناك ستة معابر مع فلسطين/ إسرائيل، معابر داخلية طبيعية في تعريف القانون الدولي؛ أربعة منها في خرائط الامتداد الطبيعي لممرات تربط غزة بالضفة الغربية في حل الدولتين، معبر رفح مع مصر قانونيا هو معبر دولي، وليس داخليا، لأنه ممر فلسطين/ إسرائيل/ غزة إلى دولة أجنبية هي مصر.
حماس تخلط الأوراق وتربط فتح معبر رفح الدولي بوقف إطلاق النار مع إسرائيل، بدلا من التركيز على فتح المعابر الداخلية كمنفذها الطبيعي.
لماذا إذن كان هناك حسن نية؟
ولماذا الإصرار من قطر وتركيا على معبر دولي (رفح)، وليس المعابر الداخلية الستة؟ وعلى الاقتراح الغريب العجيب بإدارة قوات دولية لإدارة معبر رفح (أي قطرية تركية)، وهو ما يرفضه أي مصري، وليس حكومتها فقط.
لن أدخل هنا في تخمين دوافع، رغم امتلاء الصحافة المصرية بنظريات التآمر الأميركية وغيرها، وأجندة الإخوان، ودعم الدولتين لهم (باعتبار أن حماس فرع للإخوان)، وإنما نركز على ما أمامنا من وقائع.
المطلوب من حماس (ووراءها تركيا وقطر) إثبات حسن النية، للغزيين قبل المصريين وقبل نواب مجلس العموم البريطاني أو الأمم المتحدة. إنقاذ الأرواح بقبول الهدنة والحفاظ عليها ثم التفاوض على فتح المعابر الداخلية الطبيعية مع إسرائيل/ فلسطين.
عندما ضغط الزعيم البريطاني كاميرون على نتنياهو في مكالمة تليفونية لعدم استهداف المدنيين، قال الأخير: «عندما نصل لهدنة طويلة الأمد وتتخلص حماس من الصواريخ الإيرانية التي تستهدف سكان إسرائيل، وتطلب غزة مواد البناء لإنشاء مشاريع سياحية واستثمارية، لن تفتح المعابر فحسب، بل ستسابق إسرائيل الجميع في دعم وتمويل مشاريع البناء».
عندها أيضا من الطبيعي أن تفتح مصر المعبر الدولي للتجارة والسياحة والاستثمار.