سعيد بنسعيد العلوي
كاتب واكاديمي مغربي
TT

عندما يَزِلٌّ الإعلام

كانت هولندا في القرن السابع عشر تعد جنة يتوق إليها المفكرون، وبلدا حرا يؤويهم عندما يضيق عليهم شطط السلطة في بلدانهم ويتهددهم في نفوسهم. كذلك هاجر إليها كل من الفيلسوف الفرنسي ديكارت، فرارا من جبروت رجال الكنيسة، وبادر بالفرار إليها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، هربا من لهيب الحرب الأهلية التي أتت على الأخضر واليابس في بريطانيا. وبفضل مناخ الحرية الذي كان يسود فيها، أمكن للفيلسوف باروخ سبينوزا أن ينتج ويذيع ما ألفه من فكر تنويري عظيم. والمؤرخون يعلمون، فضلا عما ذكرنا، أن حرية التعبير عن الرأي والقدرة على نشره، في الوقت الذي كانت حرية التعبير وكانت الصحافة جملة تعد أمرا محظورا. هنالك أسباب يعزو إليها المؤرخون مناخ الحرية هذا، وفي مقدمتها تأتي ضرورات الحياة التجارية التي تعطي للمواطنين كافة حق الإعلان عن سلعهم والتعريف بها والدعاية لها. ومن هذا كله نستخلص درسا أكده التاريخ المعاصر؛ حرية التعبير ركيزة أساسية في كل نظام سياسي سليم، وحجر الزاوية في كل مجتمع ديمقراطي. ولأمر ما يوصف الإعلام بالسلطة الرابعة (بجانب السلطات الثلاث المعلومة: القضائية، والتشريعية، والتنفيذية)، ولأمر ما كذلك تدرج الصحافة، بأنواعها الثلاثة أيضا المسموعة، والمرئية، والمكتوبة (في صورتيها الورقية والرقمية) في عداد القوى البديلة أو الثقل المضاد (كما يقال في الفيزياء)، بمعنى أن الإعلام هو أحد أنماط الاعتراض والاحتجاج والتنبيه إلى ما تقع فيه السلطة (بأنواعها) من شطط في بعض الأحيان؛ فهي من آليات الحياة الديمقراطية السليمة ومن ضروراتها، وهي تعاضد وتكمل الأدوار التي يقوم بها المجتمع المدني.
ماذا يحدث عندما تنحرف الصحافة عن الوظيفة الأصلية التي جعلت لها، وهي وظيفة التنوير، لتغدو مجالا للإثارة والتهييج؟ ماذا يحدث للإعلام عندما يزل، قصدا، أو يقع في الزلل، عن غير قصد، فيذيع خبرا كاذبا أو يروج للكذب والافتراء؟
أسئلة (وأخرى من جنسها) دارت بخلدي، فألحت عليّ إلحاحا شديدا عندما شاهدت، مشدوها غير مصدق، ما نطقت به مذيعة من كلام شائن في حق المغرب وملك المغرب. جمل أترفع عن ذكرها، غير أني أقول تلميحا لا تصريحا إنها عبارات تذكر بالحوار بين العوالم في المسرحية الرائعة التي جمعت بين الفنان القدير المرحوم فريد شوقي والفنانة شريهان (مسرحية «شارع محمد علي»). أتى كلام المذيعة في قناة مصرية واسعة الانتشار، وفي برنامج يُبث على الهواء مباشرة منذ فترة قصيرة. وقد كان من الطبيعي تماما أن تثير سهام المذيعة المشار إليها عاصفة هائلة من ردود الفعل الاستنكارية على صفحات التواصل الاجتماعي، وعلى صفحات الجرائد (منها ما فعله في هذه الصحيفة الأستاذ طارق الشناوي)، ومنها المبادرة الشجاعة التي أقدم عليها سفير مصر لدى المغرب في بيانه الاستنكاري الرسمي، وفي حوار على الـ«يوتيوب». لا، بل إن وزارة الخارجية المصرية بادرت إلى إصدار بيان استنكاري، وإلى تقديم الاعتذار للمغرب ملكا وشعبا، كما أن القناة التي جرى منها إرسال العبارات الشائنة أبدت أسفها. وفي المغرب، أثارت الجمل القارصة الواردة في البرنامج التلفزيوني عاصفة من الغضب، بلغت درجة تنظيم وقفة احتجاجية كادت تتحول إلى مظاهرة عارمة، أمام السفارة المصرية في الرباط.
لست أتوهم أن الشعب المصري العظيم وكرماء المفكرين ورجال الإعلام يقرون جزءا أو بعضا مما أرسلته المذيعة المصرية من قذائف، والدليل على قولي ما أشرت إليه من بعض ردود فعل رسمية وشعبية في أرض الكنانة. بيد أنني أود، بكل تأكيد، أن أستخلص العبرة من «الحادثة»، فأبث القارئ الكريم بعضا من شجني من الإعلام في العالم العربي جملة.
عقيدتي التي أومن بها في مجال الإعلام عامة، وفيما كان متصلا بالصحافة خاصة، هي أنه لا شيء يعادل الحرية ومناخها الصحي من أجل قدرة الإعلام على القيام بوظيفته على الوجه الكامل الصحيح. وليس تصديري لحديثي اليوم بذكر هولندا والأجواء التي كانت شائعة فيها في القرن السابع عشر، من لغو الصيف، كما جعل ذلك طه حسين (رحمه الله) عنوانا لأحد كتبه، بل إنه قول مقصود. أذكر به ما سبق مني قوله في هذه الصفحة مرات متعددة تنبيها إلى خطر الموضوع. بيد أن الحرية، وهذه من الأوليات، تستدعي المسؤولية وتستوجبها. أذهب أبعد من هذا، فأقول إن المسؤولية من شروط المهنية الصحيحة، وبرامج البث المباشر أو الـ«توك شو» تستوجب درجة عالية من المهنية. ولستُ أحسب أن منتسبا إلى مهنة الصحافة، ذكرا كان أو أنثى، يتساهل أو يقبل التساهل في مراعاة المقتضيات السليمة لمهنة الصحافة ومجال الإعلام. وإذا كان من المنطقي ومن الطبيعي معا أن أول شروط المهنية هي التأكد من صحة المعلومات أو التعبير عن التحفظ فيها، إذا كان كذلك، فإن من المقدمات الطبيعية والمنطقية السابقة على تلك الشروط الابتعاد عن سقط القول. أسوأ الهجائين هو، لا شك، ذاك الذي ليس يدري لماذا يهجو، وليس يعرف موضوع الهجاء، وإن كان يتوهم سببه.
في بلاد الديمقراطيات العريقة لا نجد مكانا لقطاع حكومي مسؤول عن الإعلام، وإنما هنالك مجالس ومؤسسات للمراقبة البعدية، مؤسسات تراعي اجتناب الوقوع في انحرافات أخلاقية أو مهنية. وفي كثير من بلدان العالم العربي مطالبة مشروعة بالاستعاضة عن وزارات الإعلام بمؤسسات مماثلة، ومطالبة بأن يسند إلى السلطة القضائية، دون غيرها، النظر فيما يعده المواطن الفرد (أو المواطنون ممثلون في تنظيم شرعي أو هيئة قانونية) إساءة له. وفي كل بلاد العالم قوانين تحمي الصحافة وأهلها، مثلما أن هنالك قوانين تحمي الناس والهيئات والنظم مما قد يكون من أهل الصحافة من زلل، أو من ارتكاب أخطاء تنعت في لغة القانون بالجنح، فتستوجب العقاب.
ما أود أن أنتهي إليه هو أنه من غير المعقول أن نجد في الزلة التي يقع فيها الإعلام ذريعة للتنكر للمبدأ الأصلي الذي يقضي في الصحافة بوجوب الحرية، الحرية المسؤولة التي ليس لها أن تجعل من الصحافي - بحجة الإعلام والتنوير - شخصا فوق القانون وفوق المحاسبة.
أحسب أن الموقف الحكومي الرسمي موقف مسؤول وشجاع، بيد أني أود التأكيد على حقيقة بسيطة، وهي أن برامج البث المباشر تحمل من الخطورة ما يستوجب التوافر على كفاءات مهنية وأخلاقية عالية، فليس من اللائق ولا من السليم أن تُسند إلى مَن ظهر منه عطل من هذه الصفات.
الإعلام سلاح فتاك، من شأن سوء استعماله أن يفسد الود بين الشعوب.