يرى أغلب صناع السياسات والنقاد أن الشرق الأوسط يشبه منذ فترة طويلة برميل البارود. كان رؤساء أميركا في الماضي يخشون وقوع مواجهة أميركية - سوفياتية في أثناء الحروب العربية الإسرائيلية. وفي بداية فترته الرئاسية، صرح ريتشارد نيكسون بأن هناك حاجة إلى بذل جهد هائل لمنع الحرب. وقد صرح بذلك كثيراً لأنه يؤمن أن أميركا لديها مصالح حيوية في المنطقة.
اليوم لا يزال الشرق الأوسط منطقة غير مستقرة بدرجة كبيرة. تستمر الحرب في سوريا، لتحصد أعداداً هائلة من الضحايا. وتعمل إيران بنشاط وتستغل أدواتها من ميليشيات شيعية في سعيها لبسط نفوذها عبر الشرق الأوسط العربي. وعن طريق محاولتها لإقامة بنية تحتية عسكرية، وزرع الحرس الثوري وترسيخ وجود الميليشيات الشيعية في سوريا، تزداد احتمالية وقوع نزاع أوسع مع إسرائيل إلى حد كبير. ولكن هناك جيوشاً متعددة موجودة في سوريا أو تنفذ عمليات هناك. وأي منطقة تضم جيوشاً متعددة من السوريين والروس والأتراك والإيرانيين والأميركيين والإسرائيليين على مقربة شديدة لا بد أنها ستكون غير مستقرة وتحوي بذور التصعيد.
وحتى الآن منع تجنب النزاع وقوع حرب أوسع نطاقاً، ولكنّ هناك شكوكاً جديدة بعد أن ألقى الروس باللوم على الإسرائيليين في إسقاط إحدى طائراتهم، وعلى متنها 15 فرداً من القوات، الذين لقوا مصرعهم. وعلى الرغم من أن ما أسقط الطائرة كان صاروخاً سورياً وأن الطائرة الإسرائيلية التي شنت غارة كانت قد عادت بالفعل إلى إسرائيل، لم يستطع الروس إلقاء اللوم على القوات ذاتها التي تدخلوا لإنقاذها. وفي أعقاب هذا الحادث، تغيرت اللهجة الروسية تجاه إسرائيل، حتى بعد أن أعلن الإسرائيليون أنهم سيستمرون في ضرب أهداف إيرانية سورية، وتابعة لميليشيات شيعية ربما تُستخدم كمواقع لأسلحة نوعية جديدة، ترى إسرائيل أنها تشكل تهديداً غير مقبول للدولة العبرية.
في مثل هذه الظروف، لا تحتاج الولايات المتحدة إلى وجود مستقر في المنطقة فحسب، بل إلى توضيح إصرارها على تحقيق أهدافها في المكان. وإذا كانت هناك فكرة واحدة سمعتها في أثناء زيارة قمت بها حديثاً إلى أبوظبي، فهي تلك الفكرة. لا شك في أن مقتل خاشقجي وما حدث في أعقابه زاد من الشعور بعدم الارتياح الذي لمسته في حديثي مع الناس في ملتقى أبوظبي الاستراتيجي السنوي الخامس. فقد سمعت مخاوف بشأن محاولة تركيا استغلال القضية لصالحها.
وفوق كل ذلك سمعت شكوكاً حول ما تفعله الولايات المتحدة ويمكن أن تفعله في المنطقة، بل أحياناً ما يُطرح عليّ سؤال: «هل تملك الولايات المتحدة استراتيجية في الشرق الأوسط؟».
يقود عدم الارتياح كل هذه الأسئلة، سواء أكان ذلك منصفاً أم لا، يوجد عدم ارتياح يتعلق بالولايات المتحدة ونفوذها الباقي. من الجانب التاريخي، رأت الولايات المتحدة خطراً هائلاً في السماح بوجود فراغ في الشرق الأوسط. وحددت مصالحها فيما يتعلق بضمان عدم سيطرة قوة معادية على تدفق البتروكيماويات من المنطقة. وجاءت مكافحة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل لاحقاً، عناصر رئيسية للتصور الأميركي عن مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. ونتيجة لذلك، أصبحت التهديدات التي توجه لتدفق النفط، والإرهاب، وانتشار السلاح النووي، وضرورة استباق احتمالية وصول أسوأ الأسلحة إلى أسوأ الأطراف، جميعها عوامل تساعد على تشكيل السياسة والالتزام الأميركيين تجاه الشرق الأوسط. وكان السلام العربي الإسرائيلي هدفاً قديماً، بالنسبة لرؤساء مثل كارتر ونيكسون، ولم يكن وسيلة لتجنب مواجهة محتملة مع السوفيات فحسب، بل لتسهيل عملية إدارة علاقاتنا مع العرب والإسرائيليين على حد سواء. وبالنسبة لرؤساء لاحقين مثل بوش وأوباما، كان يُنظر إليه باعتباره جزءاً من سياسة مكافحة التطرف، نظراً لأن الصراع يغذي عمليات تجنيد الإرهابيين، ويعطي الإيرانيين من جهة، و«القاعدة» من جهة أخرى، وسيلة يستخدمونها ضد الحكومات العربية التي ترتبط بعلاقات ودية مع الولايات المتحدة.
وفي وقت تزداد فيه الشكوك في المنطقة، وتعلو فيه التساؤلات بشأن القوة الأميركية الباقية التي بدأت بـ«التحول إلى آسيا» في ظل إدارة أوباما، وتستمر مع تكرار ترمب للتصريح بأننا أهدرنا 7 تريليونات دولار في حروب في الشرق الأوسط، نحتاج إلى إيضاح جديد لسبب استمرار أهمية المنطقة للولايات المتحدة، ولسبب بقائنا فيها.
اليوم تتحدث إدارة ترمب عن سياساتها ضد «داعش» وطهران، وتبدو مستعدة لتقديم خطة سلام. ولكن السياسات ليست مترابطة معاً في نهج متماسك، وذلك أيضاً سمعته باستمرار في أبوظبي. قد يدعو الأمر للاطمئنان إذا كان هناك إطار عمل واضح يرشد السياسة الأميركية، وإذا كان يقدم تفسيراً لعدم انسحاب أميركا من المنطقة.
في رأيي، يمكن أن يكون أحد المبادئ الإرشادية لمثل هذا الإطار هو أننا سوف نتحرك لمنع وجود أي فراغ في المنطقة. وكما شهدنا ما حدث في العراق وليبيا وسوريا، دائماً ما تمتلئ الفراغات بأسوأ القوى. والأمر صحيح أيضاً في المساعي الدبلوماسية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فعندما لا تكون هناك مساعٍ أو عملية دبلوماسية واضحة، تنحسر الآمال وتصبح الرؤى أكثر رفضاً. ويجب ألا يعني العزم على منع حدوث فراغ أن الولايات المتحدة يجب أن تتولى الأمر بمفردها أو تتحمل عبء التصرف وحدها. يمكننا أن نتطلع إلى شركاء يتولون جزءاً من المسؤولية، علماً بأنهم سيفعلون ذلك على الأرجح إذا علموا أن الولايات المتحدة موجودة لدعمهم.
المفارقة أن احتمالات عثورنا على شركاء سوف تزداد إذا علمت الأطراف المحلية أن الولايات المتحدة جديرة بالثقة، وأنها لن تترك الشرق الأوسط. لعل الوقت حان لكي توضح إدارة ترمب، ليس للشعب الأميركي فحسب، بل لشركائنا العرب أيضاً، ما الذي يرشد سياستنا في الشرق الأوسط، وكيف ولماذا سوف نحافظ عليها؟ إجابتي البسيطة هي أن قواعد لاس فيغاس لا تنطبق على المنطقة، على وجه التحديد ما يحدث في المنطقة - من إرهاب ولاجئين وحرب – لا يبقى في المنطقة. وبالتالي سوف يؤثر الانسحاب وترك فراغ على الولايات المتحدة عاجلاً أو آجلاً، ولكن حينما يحدث ذلك ستكون التكلفة أفدح.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»
8:2 دقيقه
TT
هل تملك الولايات المتحدة استراتيجية في الشرق الأوسط؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة