إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

البرازيل... بين الرواسب المخيبة والمجازفة الخطرة

يختار البرازيليون غدا الأحد رئيسهم الجديد. وما لم تحدث مفاجأة مُزلزلة، ستصوّت غالبية الناخبين للمرشح اليميني المتطرف جاير بولسونارو.
بولسونارو (63 سنة)، السياسي الشعبوي الذي لا يخجل من كل ما كان يخجل منه ساسة ما بعد مرحلة الديكتاتوريات العسكرية في أميركا اللاتينية، يدخل اليوم الأخير من الحملة الانتخابية متقدّماً على منافسه اليساري المعتدل فرناندو حدّاد (55 سنة). بل، إنه كان قد أخفق بفارق 4 نقاط مئوية فقط في حسم المعركة الانتخابية لمصلحته في الجولة الأولى من الانتخابات يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي. يومذاك، تقدّم بولسونارو على حداد بفارق بلغ نحو 17 نقطة مئوية، ومنذ ذلك الحين، حافظ المرشح اليميني على تقدّمه.
طبعاً، تشعر الفئات الشعبية التي يستهدفها بولسونارو بسياساته المغالية بتطرّفها، في هذه الساعات، بقلق كبير من فوزه المرجّح. لكن الواضح، حتى اللحظة، أن خيبة الأمل الشعبية من تجربة حكم اليسار (بين 2003 و2016) في ظل فوضى السلاح وانتشار الجريمة، ما زالت أكبر من تخوّف كثيرين من خروج «مارد» العنصرية من قمقمه، وعودة قبضة الديكتاتورية العسكرية، وتنامي دور المتعصّبين الإنجيليين الذين غذّوا ويغذّون حملة المرشح اليميني...
وعليه، إذا فاز بولسونارو فلن يكون مستبعداً وقوع مواجهات بين تيارين لا قواسم مشتركة بينهما، قد تتسبب في إسدال ستارة من الغموض والشك واللاثقة بمستقبل بلد يعد من أعظم بلدان العالم من حيث الإمكانات البشرية والثروات الطبيعية.
في هذا السياق، من دروس التاريخ التي يتردّد كثيرون في استيعابها، أن عاقبة التطرّف الشعبوي أو التعصّب الفئوي، بمختلف أشكاله، تكون عادة وخيمة.
طبعاً، هذا لا يصدق مع ما وصفه العالم السياسي الأميركي صامويل هنتينغتون بـ«صدام الحضارات»، عندما تهزم إحدى الحضارات حضارة منافسة، فتغيّر بذلك مسار التاريخ. كمثال، وقع حدثان مفصليان من هذا النوع خلال القرن الـ15 مع نجاح العصبية القشتالية - الأراغونية المغذّاة مسيحياً في القضاء على الوجود العربي - الإسلامي في الأندلس، وفي المقابل، نجاح العثمانيين المسلمين في فتح القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، وجعلها عاصمة لـ«خلافتهم».
غير ذلك، شاهدنا هزيمة التطرّف والشعبوية في غير مكان واحد ولو بعد حين. ففي إسبانيا، انتهت «محاكم التفتيش» بمجرد انتهاء الغاية منها، وبعد بضعة قرون طويت صفحة الديكتاتورية العسكرية الفرانكوية التي حكمت نحو 40 سنة.
كذلك، دفعت ثمناً باهظاً للتطرّف الفاشي والنازي كل من إيطاليا وألمانيا، وهما كيانان ولدا من توحّد وإعادة تشكل كثير من المكوّنات الإقطاعية القديمة داخل فضاء إمبراطوريات أوروبا. إذ كانت حصيلة الحرب العالمية الثانية مأساوية للبلدين، وكذلك لحليفتهما الشرقية اليابان.
وفي الاتجاه العقائدي المعاكس، ما كان نصيب التجربة السوفياتية في روسيا أفضل بكثير، مع أنها لعقود كثيرة قلبت مفاهيم السياسة، وهزّت أركان العالم، وأسقطت ظاهرة الاستعمار الأوروبي الأبيض عن آسيا وأفريقيا وبعض أجزاء أميركا اللاتينية.
لقد هرب الألمان والإيطاليون عندما أيّدوا أدولف هتلر وبينيتو موسوليني من الأسئلة المصيرية المعقّدة إلى ما أقنعوا أنفسهم بأنها الحلول المُثلى والسهلة. وحقاً، يمكن اختصار تعريف الشعبوية - من حيث الجوهر - بأنها تقديم إجابات سهلة على تساؤلات صعبة. وهناك دائماً فئة أو فئات شعبية معينة يصار إلى «شيطنتها» وتحميلها مسؤولية تراكم المشكلات!
فاشيو إيطاليا شيطنوا اليساريين، ونازيو ألمانيا شيطنوا اليهود... وكذلك فعل غلاة القوميين الروس إبان «البوغرومات». واليوم يشيطن كل من اليمين العنصري الأوروبي المسلمين والمهاجرين واللاجئين، واليمين الأميركي المتطرّف الأقليات الهسبانيكية والأفرو - أميركية، واليمين البرازيلي المثليين واليساريين وسكان العشوائيات في أطراف المدن الكبرى.
غداً عندما يقول الناخب البرازيلي كلمته، قد يسجل غضبه على تجربة جماهيرية وعدته بالعدالة الاجتماعية والتسامح وفرص العمل وتحسين أوضاع الطبقات الفقيرة، وهذا من حقه. حتماً، لا توجد أعذار للفساد، غير أن الفساد آفة تتجاوز الأحزاب، وكما في هذا المعسكر فاسدون يوجد فاسدون في المعسكر المضاد.
أيضاً من حق الجيل الجديد من البرازيليين، الذي لم يعشْ فترة الديكتاتورية العسكرية أن يحلم بمستقبل نظيف وواعد بعيداً عن الجماعة التي جرّبها لأكثر من عقد من الزمن، لكنها - كلها أو بعضها - خذلته. وبالتالي، له أن يعطي فرصة للبديل الذي يَعِده اليوم بحياة أفضل، ذلك أن التجربة وإتاحة الفرص لتصحيح الأخطاء أو المسارات أو الخيارات هي المزايا الأهم للديمقراطية.
غير أن الثقة مسؤولية ثقيلة، والغضب من خيبة الألم قد يكون كبيراً في بلد كل شيء فيه كبير... البرازيل بلد كبير جداً بحجمه السكاني (أكثر من 200 مليون نسمة) ورقعته (أكثر من 8 ملايين كلم مربع) وثرواته (يزيد الناتج المحلي الإجمالي على 3.370 تريليون دولار أميركي، ما يضع البرازيل في المرتبة الثامنة عالمياً)، وطاقاته ومشكلاته وتناقضاته وأحلامه.
البرازيل حالة استثنائية... إنها «هند أميركا اللاتينية»، تماماً مثلما نيجيريا «هند أفريقيا». وعندما تتقاطع خطوط الفقر والثراء مع خطوط الفصل العرقية (بالأخص، بين البيض وغير البيض) والمذهبية (الكاثوليكية والبروتستانتية تحديداً) والتفاوت الإقليمي في مستويات الدخل والتنمية (صوّتت مناطق الشمال الشرقي الفقيرة بغالبية كبيرة للمرشح اليساري في الجولة الأولى)... تغدو المشكلات الاقتصادية والسياسة أكثر خطورة.
وإذا كان البعض يحسبون أن اللجوء إلى «العصا الغليظة» العسكرية كفيل بإخماد تململ المرارات وسخطِ المحرومين وقلق المناوئين، فإن القفز سياسيا من النقيض إلى النقيض، ولو عن طريق صناديق الاقتراع، لا يوفر ضمانات التعايش السهل ولا الانسجام الاجتماعي المنشود ولا البحبوحة الموعودة.
لقد جرّب البرازيليون الديكتاتورية العسكرية بين 1964 و 1985... وعانوا منها. ثم عاشوا حكم «بطل اليسار» لويس (لولا) إيناسيو دا سيلفا الذي واكبته نهضة اقتصادية ضخمة استمرت لثماني سنوات بين 2003 و2011 قبل أن تهب رياح تهم الفساد، فيُحاكم «لولا» ويُسجَن!
اليوم أمام نحو 150 مليون برازيلي المفاضلة بين رواسب حقبة اليسار المشوهة بالفساد... والمجازفة بتجربة اليمين المحفوفة بالمخاطر.