ليونيد بيرشيدسكي
TT

هل كانت روسيا بحاجة لخصم مثل ماكين؟

ينهال المديح والثناء على السيناتور جون ماكين، الذي توفي السبت الماضي، ليس داخل الولايات المتحدة فحسب، وإنما بمختلف أرجاء شرق أوروبا، وفي أوكرانيا وجورجيا. إلا أن موجة الثناء لم تمتد إلى روسيا، حيث يصفه مسؤولون من المؤسسة الحاكمة بـ«العدو» حتى بعد وفاته. ومع هذا، يبدو في حكم المؤكد أن وضوح مواقف ماكين إزاء روسيا سيفتقدها الجميع، بما في ذلك أنصار الكرملين.
من ناحيته، نعى رئيس الوزراء البولندي ماتيوس مورافيتسكي، ماكين واصفاً إياه بـ«صديق جدير بالاعتماد عليه بالنسبة لبولندا» و«حامٍ لا يكل ولا يمل للحرية والديمقراطية». كما نعى الرئيس الأوكراني بترو بوروشنكو السيناتور الراحل باعتباره «صديقاً عظيماً لأوكرانيا» قدم «إسهامات لا تقدر بثمن» للديمقراطية والحرية بها. ووصفه الرئيس الجورجي جيورجي مارغفيلاشفيلي بأنه «بطل وطني بالنسبة لجورجيا».
أيضاً، كتب الرئيس الإستوني السابق توماس هندريك إيلفس نعياً مؤثراً قال فيه: «في شرق أوروبا، قليلون من يعرفون أو يعبأون بأمر تفاعلات جون ماكين مع السياسات الداخلية. هنا، يقف السيناتور الراحل رمزاً لكل ما نعتقد أنه كان إيجابياً بخصوص الولايات المتحدة: اللياقة والإيمان بالحرية وحقوق الإنسان والنظام العالمي الليبرالي».
وعلى النقيض الكامل، جاءت التعليقات من جانب شخصيات روسية متحالفة مع نظام الرئيس فلاديمير بوتين. على سبيل المثال، حمل عنوان النعي الذي أصدرته وكالة أنباء «آر آي إيه نوفوستي» الرسمية «كاره روسيا الأول داخل أميركا».
وكتب المشرع أوليغ موروزوف: «ليتقبل الله روحه المظلمة، وله القول الفصل في مصيره».، أما كونستانتين كوساتشيف، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الغرفة العليا من البرلمان الروسي، فكتب يقول: «كانت آيديولوجيته الأساسية: (دافع عن فكرك، وهاجم فكر الآخرين). وكان العمود الفقري لفكره الولاء لأميركا والمصالح الأميركية، وليس معايير السلام والخير والعدل».
بوجه عام، تبدو المشاعر القائمة وراء ردود الفعل إزاء وفاة ماكين داخل أوروبا الشرقية من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى مفهومة، خاصة وأنه فيما يخص جميع القضايا الإقليمية، دائماً ما كان ماكين يدعم الدول والسياسيين الساعين للفكاك من دائرة نفوذ روسيا، وكثيراً ما كان يوجه سهام النقد لبوتين وحلفائه. وكانت مواقفه دائماً واضحة وتتسق مع قناعته الراسخة بأن روسيا، التي منيت بالهزيمة في الحرب الباردة بفضل حزم الرئيس رونالد ريغان، وتحولت إلى مجرد «محطة وقود متنكرة في شكل دولة»، تستحق إبقاءها في الجانب الخاسر لكونها دولة استبدادية انتقامية.
وكان دائماً بمقدور السياسيين الذين يعملون بجد لإقصاء بلدانهم عن تاريخ من الدوران في فلك روسيا، الاعتماد على ماكين. ولم يخذلهم ماكين قط، حتى وإن كانت إداراتا الرئيسين جورج دبليو. بوش وباراك أوباما لم ترقيا لمستوى حماسه قط. بالنسبة لموسكو، نجد أن نظام بوتين كان بحاجة إلى عدو خارجي، في وقت مثلت الولايات المتحدة عدواً تقليدياً، ولم يكن من الصعب على نظام بوتين تصوير ماكين باعتباره ممثل التوجه الأميركي الحقيقي إزاء روسيا. وفي رسالة كتبها عبر صفحته على «فيسبوك»، الأحد، قال موروزوف عن ماكين: «لقد علمنا كيف يمكن أن نفهم أنفسنا وأميركا على نحو أفضل».
أما أهم ما أنجزه ماكين فهو إعلانه أن روسيا غير قابلة للإصلاح. وبغض النظر عن مدى رغبتنا في أن نروق لروسيا، وحجم التنازلات التي نقدمها، مثلما فعلنا في تسعينات القرن الماضي، لن نكون مقبولين أبداً لدى روسيا، فنحن عدوها الأبدي! كان هذا منطق ماكين، والذي كان جيداً من حيث وضوحه واتساقه.
أما مشكلة الاتساق المثالي فتكمن في تجاهله للحقائق غير المريحة، ذلك أنه بينما ركز ماكين على النخبة الكارهة لأميركا المحيطة ببوتين، فإنه أسهم بذلك في إبقاء بوتين في حالة تأهب مستمرة. وفي تلك الأثناء، وقع ماكين في أخطاء ساعدت بوتين على تحقيق انتصارات على صعيد الحرب الدعائية - بل وفي إحدى المرات شن حرباً فعلية وجيزة خرج منها منتصراً.
على سبيل المثال، بعد تأييده صعود ميخائيل ساكاشفيلي إلى السلطة في جورجيا عبر ثورة سلمية عام 2003، ظل ماكين متشبثاً بتأييده لساكاشفيلي حتى بعد تحوله إلى حاكم استبدادي. ومع ترشحه للرئاسة عام 2008، شجع ماكين خرافة دعم الغرب لساكاشفيلي، وقد يتحمل جزءاً من المسؤولية عن قرار الرئيس الجورجي المتهور بالتورط في مواجهة عسكرية أمام روسيا في أوسيتيا الجنوبية. وكان الكرملين بانتظار هذه الخطوة كي ينقض. وبالفعل في غضون أيام اجتاحت القوات الروسية جورجيا التي جابهت خطر فقدان استقلالها. ومع إحجام الغرب عن التدخل خلال الفترة اللاحقة، أدرك بوتين أنه يتمتع بقدر من الحصانة داخل منطقة الجوار المباشر لبلاده، الأمر الذي شجعه على خوض مخاطرة جديدة في أوكرانيا عام 2014.
ومن المحتمل أن يكون استيعاب ماكين غير الدقيق لتفاصيل الحياة السياسية في روسيا بعد الحقبة السوفياتية وديناميكيات النفوذ هناك، سبباً في إلحاق الضعف بخصوم بوتين داخل روسيا.
مثلاً، في ديسمبر (كانون الأول) 2011، أطلق «تغريدة» قال فيها: «عزيزي فلاديمير، الربيع العربي في طريقه إلى ضاحية قريبة منك» - وكان هذا آخر شكل من أشكال الدعم احتاج إليه المتظاهرون الروس ضد تزوير الانتخابات البرلمانية. بالنسبة لبوتين، فإن هذه التغريدة لم تكن دليلاً على أن المعارضة السياسية الروسية تتحرك بتحريض من الولايات المتحدة فحسب، وإنما تلقى دعماً مباشراً منها، في خضم المساعي الأميركية لإسقاطه. وقد صاغ هذا الاعتقاد فترة الرئاسة الثالثة لبوتين التي بدأت عام 2012 وانتهت هذا العام: وشن الكرملين هجوماً قوياً ضد المعارضة ووسائل الإعلام الليبرالية الروسية، وجرى توحيد لب جمهور الناخبين حول فكرة أن روسيا تخوض حرباً مستمرة ضد الهيمنة الأميركية. وكانت القرصنة الروسية أثناء الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 جزءاً من هذه السياسة.
الواضح أن ماكين لم يبد قط رغبته في معرفة المزيد عن حقيقة الوضع داخل روسيا. عام 2013، نشر موقع «برافادا رو» الموالي للكرملين محاولة من قبل ماكين للحديث مباشرة إلى الروس حول إخفاقات نظام بوتين. وخلال رسالته، قال ماكين: «إنني مؤيد لروسيا أكثر عن نظام يسيء إدارة شؤونها اليوم»، مضيفاً أنه: «ليس باستطاعة مواطن روسي نشر رسالة كتلك التي نشرتها لتوي». في الواقع، أسهم الاختيار غير الموفق للوسيلة التي طرح من خلالها رسالته وقناعة ماكين الواضحة بأن الروس ليس باستطاعتهم انتقاد بوتين عبر وسائل الإعلام المطبوعة - اعتقاد غير صحيح حتى في يومنا هذا - في ترسيخ صورته باعتباره «كاره روسيا الأول داخل أميركا».
المؤكد أن مروجي حملات الدعاية الداعمة للكرملين سيفتقدون ماكين، ذلك أن سياسيين أميركيين آخرين ركبوا موجة العداء لروسيا بعد عام 2016 لا يركزون اهتمامهم مثله على محاربة التوسع الروسي ومعاونة خصوم بوتين بمختلف أرجاء شرق أوروبا. من دون ماكين، زادت صعوبة تصوير الولايات المتحدة باعتبارها دولة تحمل كراهية دفينة تجاه روسيا.
أما أنا فسوف أفتقده لسبب مختلف، فرغم أنه كثيراً ما كان يخطئ بخصوص التفاصيل، فإنه كان محقاً بخصوص المبادئ الأساسية، ذلك أنه من الضروري محاربة الإمبريالية والاستبداد حتى عندما يكون ذلك غير مواتٍ سياسياً.

- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»