يمكن إيجاز حياة وإرث جون سيدني ماكين في كلمة واحدة: «الجسارة». وليس هناك من بين جميع الشخصيات العامة الأميركية الحديثة من يجسد هذه الصفة أكثر من سيناتور ولاية أريزونا الذي توفي السبت بعد معركة مع سرطان المخ.
وقد أظهر ماكين البسالة أثناء احتجازه في فيتنام بوصفه أسير حرب على مدار خمس سنوات ونصف. وبعد ذلك، أبدى نمطاً مغايراً من البسالة بتوليه قيادة الجهود الرامية لتطبيع العلاقات مع تلك البلاد رغم تعرضه للضرب والتعذيب هناك.
يذكر أن ماكين كان واحداً من الشخصيات المفضلة لدى نشطاء حقوق الإنسان، وغالباً ما كان يجري استقباله بوصفه بطلاً أثناء زياراته المتكررة لمعسكرات اللاجئين.
وتطلب الأمر شجاعة من ماكين أيضاً كي يستجيب للحرج الذي تعرض له بسبب قبوله تبرعات في حملته الانتخابية من مصرفي فاسد في ثمانينات القرن الماضي.
من ناحيته، قال مارك سولتر، صديق ماكين: «كانت بسالته تماماً كشخصيته: سريعة وعنيدة. لقد كان يملك شجاعة كبيرة. ومع أن آخرين كثيرين يملكون الشجاعة، فإنه كان يستغل شجاعته من أجل الآخرين، خصوصاً المضطهدين».
يذكر أن سولتر عاون ماكين في تأليف كتب عدة، منها كتاب يحمل عنوان: «سر أهمية الشجاعة: السبيل نحو حياة أكثر شجاعة».
وتترك وفاة ماكين الجمهوريين بأغلبية 50 - 49 داخل مجلس الشيوخ.
كان ماكين قد تقلد عضوية مجلس الشيوخ لأكثر عن 31 عاماً، بداية من عام 1987 بعد 4 سنوات داخل مجلس النواب، وكان واحداً من أهم شخصيتين سياسيتين على الساحة السياسية الأميركية على مدار الأعوام الـ70 الأخيرة لم تصلا إلى موقع الرئاسة. أما الشخصية الأخرى فهو إدوارد كيندي، عضو الحزب الديمقراطي من ولاية ماساتشوستس، والذي توفي عام 2009 بعد 46 عاماً قضاها داخل مجلس الشيوخ. باختصار، كان ماكين السيناتور الذي لا يجرؤ أحد على تجاهله.
وكان محافظاً معتدلاً وأحد الصقور في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، وأبدى معارضة شديدة للحكام المستبدين والفساد السياسي وإهدار الموارد داخل «البنتاغون». وكان يكنّ إعجاباً كبيراً تجاه الرئيسين دوايت آيزنهاور ورونالد ريغان، بينما كان يرى أن الأبطال الحقيقيين في حياته هما الرئيس تيودور روزفلت، والشخصية الخيالية روبرت جوردان، المقاتل الصامد المناهض للفاشية في رواية «لمن تقرع الأجراس» للروائي إرنست هيمنغواي.
ومع هذا، فإن ماكين كان يدخل في نوبات غضب عاصف في بعض الأحيان، لدرجة خلقت اعتقاداً لدى بعض زملائه بأنه لا يصلح لمنصب الرئاسة. الحقيقة أنني شخصياً عايشت هذه الثورات الغاضبة لماكين مرتين، وأختلف بشدة مع من يرونها عائقاً يحول دون تولي الرئاسة.
على الجانب الآخر، كان لماكين كثير من المواقف التي ظهر خلالها جانب بالغ العطف من شخصيته. على سبيل المثال، عندما كان عضو الكونغرس السابق عن الحزب الديمقراطي موريس كيه. أودال يحتضر بسبب مرض باركنسون، حرص ماكين على زيارته بالمستشفى والجلوس بجواره لقراءة بعض الكتب له.
بداخله، حمل ماكين حباً كبيراً للعمل السياسي، وكانت واحدة من أشهر مقولاته: «القتال الذي لا يشاركك إياه شخص آخر، قتال يفتقد المتعة». واتسم ماكين بجدية شديدة في آرائه تجاه السياسة الخارجية، والتي صاغتها تجربته في فيتنام. يذكر أنه عندما كان طياراً بالقوات البحرية في سن الحادية والثلاثين، أسقطت طائرته ووقع بالأسر وذلك في مهمته الثالثة والعشرين فوق فيتنام الشمالية. ولأن والده وجده حملا رتبة أدميرال، فقد تعرض لوحشية زائدة بوصفه أسيراً رفيع القيمة. ومع ذلك، رفض ماكين عرضاً بإطلاق سراحه قبل أسير أميركي آخر كان قد قضى في الأسر فترة أطول.
وكانت لدى ماكين قناعة بأن الولايات المتحدة لم تسع بجد وراء الانتصار في هذه الحرب، وأصبح من الأصوات الداعمة باستمرار للتدخل الأميركي في صراعات متنوعة من الشرق الأوسط إلى شبه الجزيرة الكورية. وأبدى ماكين ازدراءً خاصاً تجاه بوتين.
وبينما تمسك بتوجهات محافظة إزاء الإنفاق الحكومي والتنظيم وبعض القضايا الاجتماعية، أبقى ماكين على علاقات تعاون مع كثير من الليبراليين.
من ناحية أخرى، أثارت جهوده لإصلاح نظام تمويل الحملات الانتخابية غضب كثير من زملائه داخل الحزب الجمهوري. وفي عام 2002، تعاون مع السيناتور الديمقراطي صاحب التوجهات الليبرالية روس فينغولد من ولاية ويسكونسن لضمان تمرير قانون إصلاح تمويل الحملات الانتخابية، الذي يحظر التبرعات المالية الضخمة للجان الوطنية للأحزاب. وبفضل هذه الجهود، نال ماكين «جائزة جون كيندي للشجاعة»، وإن كانت جهوده قد أعيقت لاحقاً بسبب قرارات المحكمة الدستورية التي أعادت فتح ثغرات لتدخل مصادر الأموال الضخمة في الساحة السياسية. وأقر ماكين بأن جهوده على هذا الصعيد انطلقت من اللحظة الأقسى في حياته الشخصية، وذلك عندما قبل هدايا من رجل أعمال فاسد يدعى تشارلز كيتينغ.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»