وفيق السامرائي
ضابط متقاعد وخبير استراتيجيّ عراقيّ
TT

«الدواعش» إلى أين؟

ليس غريبا أن يتشكل هذا التنظيم تدريجيا على الأرض السورية، وسط التدخلات العالمية والإقليمية، وخروج «الإخوان المسلمين» من مخابئهم في شمال أفريقيا، قبل قيادة الرئيس السيسي لثورة الشعب المصري، وتصدي الجنرال حفتر لهم في الصحاري والمدن الليبية. لكن الغريب أن تنسق أطراف تحمل صفة وطنية وقومية مع «غزوة داعش في العراق»، أيا كانت المعاناة الفردية والجماعية لشريحة معينة أو أكثر من الشعب أو السياسيين. فللدواعش فكرهم وعقيدتهم وشريعتهم، التي لا يمكن الانسجام معها من قبل من يتمتع بنمط من الحضارة، ولا هم يتساهلون مع من يتقاطع معهم سلبا في الرأي والتفسير والموقف.
يتصل بي بلطف أشخاص يدعون أنهم من قيادة «الثوار»، يعبرون عن «عتب» على ما يرونه ضغطا مني لمحاولة إضعاف معنوياتهم ورفع معنويات القوات العراقية، وعلى مدى أسبوعين فشلوا في الإجابة عن سؤال محدد وبسيط وواضح وهو: إذا لم يكن «داعش» هو القائد والمسيطر على الوضع، فلماذا فشلت كل الأطراف في إظهار قيادة أو واجهة قيادية عسكرية أو سياسية معروفة، وليس صورا كارتونية لأشخاص فارين؟! ومن مستلزمات الثورات أن تكون لها برامج محددة، أو التعويض عنها بوجوه قيادية واضحة الرؤية والموقف والسجل التاريخي. وإلى أن تظهر الإجابة علنا وبقوة، فإن ما يجري من أحداث سيبقى محسوبا على «داعش» ومجيرا له.
وعندما يستفيق العراقيون من هول المفاجأة سيجدون أنفسهم في مأزق لا نهاية له، إلا بعودة هيمنة الدولة العراقية بثوب وطني يلقي في سلة المهملات وريقات التصنيفات الطائفية والعرقية والكتلوية، وهذا يتطلب وجود قوات مسلحة من نمط يمكنه حماية وحدة المجتمع، تحت راية العدالة والإنصاف. وها هي مدن المعاناة تعيد ذاكرة أيام ما بعد حربي 1991 و2003، فكل شيء معطل، والحصول على قربة بنزين يمكن تشبيهه بالحصول على ماء في الصحراء. ووسط هذه الأجواء ترتفع أصوات الانفصاليين الذين يتصرفون بجهل «مميز» يدل على أنهم لم يستفيدوا من التجارب المريرة السابقة.
انتشر «داعش» عسكريا في ميادين لم تكن محسوبة كميادين قتال، بسبب القصور في الرؤية والتجارب، لكن فكره الظلامي لن ينتشر مرة أخرى بين العراقيين، بعد أن تسبب في مقتل عشرات آلاف الأشخاص من كل الشرائح، منذ دخول «القاعدة» إلى العراق. ومع تمكن العراقيين من احتواء الحالة وبدء ممارسات تطبيق الفكر الظلامي، ستدق ساعة التراجع بوتيرة تحتاج إلى بعض الوقت وكثير من العناية في اختيار طرق المعالجة، لأن الثورية والحزم وحدهما ليسا الخيار الصحيح، وذلك لتقليل الضرر الذي يصيب الأبرياء.
الحكومة العراقية الجديدة في طور التشكل، غير أنه من السطحية التركيز على هذا الجانب من دون أن يكون ورق صفحات الاتفاق موسوما بقدسية وحدة العراق، التي تبقى الطريق الوحيد لتخليص العراق والمنطقة من حروب مدمرة. فالمفسدون والضعفاء موجودون في كل الفرق السياسية، والتفكير في منقذ محض هراء، والمطلوب أولا دحر «داعش»، ولن يتحقق هذا الهدف إلا بإعادة بناء العلاقات الداخلية وبدعم خارجي، ولا عيب في طلب الدعم علنا، وكلما تفاعل العرب الأقربون إيجابا تركوا لهم بصمات مساعدة، وإلا فإن إيران ستزيد وجودها بقوة، ورأينا كيف واصلت نهجها في الأزمة السورية بلا تردد، والحالة العراقية غير مكلفة إيرانيا في حسابات الربح والخسارة، بل العكس تماما.
حلم «داعش» في الحركة خارج سوريا والعراق لا يستحق الاهتمام والتحسب الزائد، وما قاله عن توجهاته نحو الكويت والأردن ليس إلا هوسا ووهما، فالأجهزة الأمنية والقوات المسلحة في هذين البلدين قوية بما يكفي لضمان الأمن والاستقرار والقضاء على نيات الشر في مراحل التفكير فيها، كما أن قوة النسيج الوطني والمجتمعي والقيادة الواعية تبقى عناصر تلاحم في قدرة الأجهزة الأمنية، ولا أرى أي مجال لتمدد خلايا «داعش» في الأردن ولا في كل دول الخليج، كما أن زمام المبادرة عاد مرة أخرى بقوة إلى الأجهزة المصرية.
ومن المتوقع انتقال القوات العراقية إلى مرحلة التعرض الفعال، حتى لو تعرضت لنشاطات «داعشية» هنا وهناك، ومطلوب من الحكومة المركزية إعادة النظر في صفحات المعاناة والعمل على فصل الفصائل المسلحة عن «داعش»، برفع معاناة من فرضت عليهم إجراءات قاسية كاجتثاث «البعث» وغيره، وتقوية التواصل مع المحيط العربي المباشر.