ميشال دوكلو
السفير الفرنسي السابق في سوريا
TT

لم نبلغ الفصل الأخير في سوريا بعد

يحمل أولئك الذين يهتمون بالشأن السوري في أذهانهم ووجدانهم أنه قبل سبع سنوات كاملة خرجت الحشود السلمية إلى شوارع مختلف البلدات والقرى السورية مطالبين بالكرامة والعدالة والحرية. وكانوا يصرون في احتجاجاتهم على أنهم شعب واحد وليس كياناً مجزّأً من الجماعات الطائفية. وقوبلت تطلعاتهم لحياة أفضل بمزيد من الازدراء، وأكثر أشكال القمع السياسي وحشية، فضلا عن حالات القتل المفزعة والرهيبة.
وبعد مرور سبع سنوات عجاف، سيكون من السذاجة المحضة الاعتقاد بأننا بلغنا الفصل الأخير من القصة المريعة. لقد عبرت المأساة السورية بالكثير تلو الكثير من التطورات العصيّة على كل توقع خلال هذه السنوات السبع، ومن المرجح للغاية أن يستمر الأمر على منواله المشهود. وإن كان أحدنا يعوزه المزيد من التوضيح أو التفسير لبعض نقاط المشهد السوري المزري، فما عليه سوى مقارنة الأوضاع بما كانت عليه الأمور قبل شهور وسنوات من الآن.
فقبل سبعة أشهر، كان المعتقد السائد أنه يستحيل عكس توجهات الأحداث. وبدا أن الأسد وحاشيته يملكون اليد العليا حتى الآن. ومدد النظام السوري هيمنته على أغلب التراب الوطني في البلاد. وكانت فصائل المعارضة المعتدلة في حالة من التقهقر المستمر على الأصعدة كافة، ولم يعد الرعاة الطبيعيون في مزاج يسمح لهم بمواصلة دعم القتال هناك. وكان تنظيم داعش قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة الساحقة المنكرة، واعتقد أغلب المتابعين للشأن السوري أن الولايات المتحدة ستغادر المسرح السوري إن عاجلا أو آجلا. والأهم من ذلك، كان النفوذ الروسي في أوج ذروته. وقضت الحكمة التقليدية في تلك الأثناء بأن النظام السوري قد حقق الانتصار المنشود، غير أن اللاعب الرئيسي في تلك المقامرة كان روسيا. وأجل، بدت إيران في صورة الشريك المشاكس المحتمل لدى موسكو، لكن كان هناك قدر لا بأس به من التقارب بين كل من موسكو، وطهران، وأنقرة يسمح للشركاء الاستراتيجيين الثلاثة بصياغة ما تسمى «عملية السلام» التي ربما تسفر عن شكل من أشكال التسوية السلمية؛ وفق الشروط التي تمليها الأطراف المنتصرة من دون شك.
ولنذكر جيداً: كانت هناك محادثات بشأن «السلام الروسي»، وتمت دعوة الجانب الأوروبي للاستعداد لتمويل عمليات إعادة بناء سوريا تحت حكم بشار الأسد. ولننظر إلى الوضع الراهن اليوم: كانت محادثات سوتشي مخيبة للآمال من الزاوية الروسية، ولم يعد الأسد مستعداً للاستماع إلى مزيد من مقترحات موسكو ويرفض تماماً المقترح المتواضع بإنشاء اللجنة الدستورية، وصار التحالف المشبوه بين تركيا وإيران وروسيا محفوفاً بكثير من التناقضات، على نحو ما شهدنا في عفرين، وأصبح ثلث الأراضي السورية، على أدنى تقدير (بما في ذلك حقول النفط وغيرها من الموارد)، تحت السيطرة الفعلية للقوات الأميركية أو التركية.
وبمزيد من الأهمية، وبدلا من التحرك على مسار التهدئة، كما هو متوقع، اندلعت جولة جديدة من الاشتباكات العسكرية في ظل الهجمات العشوائية من قبل النظام السوري ورعاته ضد السكان المدنيين (في الغوطة الشرقية)، وبين القوات التركية والكردية في عفرين، وبين القوات الأميركية والعناصر الروسية في دير الزور، وبين إيران وإسرائيل كذلك. وأسقطت المروحيات العسكرية والطائرات المسيرة، ولا يزال الضباط، والجنود، والمرتزقة يتساقطون في ساحات القتال إلى جانب قوات المعارضة مع استمرار معاناة المدنيين العزل لعمليات القتل والإبادة الوحشية.
وما زلنا في خضم سيناريو الحرب بالوكالة، ولكننا بتنا في مواجهة خطر التصعيد الحقيقي بين مختلف الأطراف العسكرية للقوى الإقليمية والدولية، والذي يسفر عن نشوب صراع إقليمي مسلح.
فما الذي حدث بين الماضي والحاضر مما قد يفسر ذلك التحول غير المفهوم في الأوضاع؟ لقد دخل كثير من الأحداث إلى خضم اللعبة، المعروفة أو المجهولة، غير أننا نود التأكيد على عاملين اثنين محددين: أولا؛ الثقة المفرطة من جانب النظام السوري الحاكم: تعكس كل الأحداث أن الأسد وحاشيته واثقون تماما بحاجة روسيا وإيران إلى وجود النظام السوري بأكثر من حاجة النظام السوري لهما. ولا يساور النظام أدنى شك بأحقيته المطلقة في إعادة بسط السيطرة والحكم على كامل التراب الوطني للبلاد. والنظام مستمر في الاعتقاد بأنه لكي يحقق هذه الغاية، فلا بد من استخدام جميع الوسائل المتاحة؛ وبالتالي جاءت مواصلة عمليات القصف العشوائي للمدنيين، والاستخدام النوعي للأسلحة الكيماوية. وبالنسبة للنظام السوري، ليست هناك تكاليف متكبدة حيال صورته في الخارج حتى تؤخذ في الاعتبار.
وفي الآونة الراهنة، يفسر بشار الأسد «انتصاره» بأنه يعني أنه لا يتعين عليه تغيير أي شيء في أسلوب إدارته للأزمة الحالية، وأنه لا حاجة إلى الانفتاح السياسي أو المرونة الدبلوماسية بغية التكيف مع الوضع الراهن في البلاد التي تحولت إلى أطلال وأنقاض.
والعامل الثاني يتصل بقرار الإدارة الأميركية بالمحافظة على الوجود العسكري في شمال شرقي سوريا؛ أي المنطقة التي تم تحريرها من سيطرة «داعش»، والمحافظة كذلك على التزامها حيال «قوات سوريا الديمقراطية» بقيادة الأكراد. وهذه من السياسات المنطقية: الوجود العسكري القوي مع الجهود السياسية المستمرة بهدف بلوغ حالة من الاستقرار في شمال شرقي سوريا، وهو من الأمور الضرورية لتحقيق الانتصار الكامل على «داعش» والحيلولة دون تجدد بروز هذه الظاهرة المتطرفة. كما أنه هو السبيل الوحيد لتأمين الكلمة القوية في أي مفاوضات تتعلق بمستقبل البلاد. بيد أن قرار البقاء والاستمرار له تكاليفه اللازمة على الجانب الأميركي وحلفائه في المنطقة؛ فلا بد من الاستعداد الكامل لمجابهة الهجمات القادمة من النظام السوري ومن إيران، فضلا عن المحاولات المتكررة الرامية إلى تقويض الجهود. كما عليهم التعامل وربما التأقلم مع الإصرار التركي على تحدي القرار الأميركي بمواصلة التحالف القائم مع القوات الكردية المحلية. ومن شأن الجانب الروسي أن يدعم النظام السوري ويؤيد الأعمال الإيرانية الهادفة إلى زعزعة الاستقرار واستغلال حالة الصدع القائمة بين الأتراك وحلفائهم داخل حلف شمال الأطلسي.
ولهذا السبب، بالنسبة إلى الغرب والشركاء الإقليميين، لا بد من متابعة ثلاثة مسارات للعمل بوصفها مسألة عاجلة وملحة:
* التعامل مع حالة الثقة المفرطة لدى النظام السوري؛ لا سيما مع إدراج حماية السكان المدنيين على رأس أجندة أعمال القوى الغربية، والمجتمع الدولي إن أمكن. وبدأت بعض الدوائر الداخلية في الإدارة الأميركية في التفكير في هذه الشروط، على الرغم من أنها سياسة عصية على التنفيذ للغاية.
* بذل كل جهد ممكن لخلق أرضية مشتركة مع تركيا؛ بهدف المساعدة على استقرار الجزء الشمالي الشرقي من البلاد، مع صياغة السياسة المشتركة تجاه المنطقة المتنامية الخاضعة لسيطرة القوات التركية هناك. وعلى هذا الصعيد، لا بد من مناقشة مسألة إدلب بكل هدوء بين الجانبين الأميركي والتركي.
* الحفاظ على باب الحوار مفتوحاً مع الجانب الروسي، ولكن على أساس مختلف هذه المرة؛ فلقد حان الوقت لاتخاذ التدابير العاجلة لفض النزاع ليس فقط بين روسيا والولايات المتحدة في سوريا فحسب؛ وإنما بين كثير من البلدان الأخرى في واقع الأمر.
وفي هذا الصدد، يتعين على المرء الإقرار بأن القرار المحتمل من جانب الإدارة الأميركية بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني من شأنه أن يثير قدراً من التحديات الإضافية.
* السفير الفرنسي السابق لدى سوريا
خاص بـ«الشرق الأوسط»