خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

رائد الفكاهة الصحافية

في هذه الأيام التي اختفت فيها روح الفكاهة من الصحافة العربية، لا بدّ لي أن أذكر ذلك الكاتب الصحافي البارع ورائد الصحافة الفكاهية في العراق، نوري ثابت، أو كما عرف في دنيا السخرية والفكاهة بلقب «حبزبوز». عاش حياة متنوعة فقد كان ضابطاً في الجيش العثماني وجرح في رجله في معركة جنة قلعة، فعاد إلى بغداد واشتغل معلماً في المدرسة الجعفرية. اكتشف الفن المسرحي فأصبح ممثلاً. وأخيراً اهتدى للصحافة الفكاهية بعد أن تأثر بفكاهات جريدة «الكرخ». أوحت له بإصدار صحيفة مكرسة كلياً للسخرية والفكاهة باسم «حبزبوز».
عاش ومات في فقر وعوز من دون أن يطأطئ رأسه للسلطة. انتبه لما كان يفعله مرتزقة المثقفين. فكتب عنهم: «إيه، أيتها الوطنية! كم باسمك انتفخت جيوب الشعراء، وتبجحت جيوب الأدباء، وصدحت بخلاف ما تضمر ألسنة الخطباء، وصفقت لا تدري أيدي البلهاء، وتطاولت بدافع الفلوس أقلام الجبناء».
سخر في مقالة أخرى من الادعاء بالثقافة واستعمال هذه الصفة التي أصبحت تعرف في هذا الزمان بالمثقفين. قال: «كيف نستطيع أن نميزهم، ونعرف بأن هذا الرجل مثقف؟ واحد من المثقفين؟ اقترح لمنع الالتباس أن تصدر الدولة طوابع خاصة تلصق على جبين المثقف، على أن تقوم مديرية المطبوعات في وزارة الداخلية بتصديق الطابع بوضع ختمها الرسمي عليه مع التاريخ وتوقيع المدير. وعندئذ نستطيع أن نرى الطابع على جبين الرجل، فنعرف أن هذا الرجل الذي أمامنا مثقف».
سأله أحد القراء عما يكون وقد اقترب موسم الربيع، موسم الخيرات؟ فأجابه بمقالة أخرى ساخرة فقال: «إنه يتمنى أن يصبح حماراً حراً طليقاً، غير مقيد بحزام أو مقود. والأهم من ذلك أن يكون غير مقيد بقيود العقل والتفكير. فإذا ما قررت الحكومة إبرام معاهدة جائرة أو شكلت مجلساً مزيفاً يغط أعضاؤه في النوم، ويتثاءبون عند خطبها بالمجلس، فإنه سيستطيع بملء حريته كحمار أن يرفع ذيله، ويشمخ برأسه ويكشر عن أنيابه ناهقاً ويركض... ضاحكاً من حقوق المهضوم والمظلوم».
مما تميز به «حبزبوز» عن معظم مثقفي أيامنا الكالحة هذه، التي يعاملون المرأة فيها كلعبة في أيديهم، تماماً كما يعاملون أوطانهم وشعوبهم، إنسانيته المفعمة. كانت له علاقة عاطفية مع امرأة ثم اكتشف أنها أصيبت بالسل الرئوي الذي كان يثير الرعب في نفوس الجميع. نصحه الأطباء بالابتعاد عنها وتحاشي انتقال المرض إليه. ولكنه بدلاً من اتباع نصيحتهم، سارع إلى خطبتها والزواج بها. كرس وقته لها وكل ما كسبه من مال ضئيل. لم تدم غير أيام قليلة حتى انتقل المرض إليه. ولم يكن قد تجاوز الأربعين من عمره. وما إن توفيت حتى لحق بها هو الآخر.
لم يكن من شهداء الحب فقط، بل وواحد من شهداء الإنسانية. كتبوا على شاهد قبره: «هنا يرقد الكاتب الهزلي الشهير، الوطني المرحوم نوري ثابت صاحب جريدة (حبزبوز)». وبموته ماتت «حبزبوز».