حتماً ستكون الحلقات المقبلة من عرض الرئيس الأميركي دونالد ترمب لافتة للانتباه؛ فقد أعلن مستشار الأمن القومي الكوري الجنوبي الأسبوع الحالي أن ديكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون قد توجه بدعوة إلى ترمب لعقد لقاء للتشاور بشأن أسلحته النووية. وسيلتقي الرئيس الأميركي مع الشاب الصاروخي وجهاً لوجه، ولذلك استعدوا للمشاهدة.
لو مر هذا اللقاء غير المسبوق على خير فسوف يكون يوماً تاريخياً، لكن هذا لا يعني أن اللقاء ستسوده الحكمة. وإذا لم يحضر ترمب اللقاء لمناقشة شروط استسلام وتنازل كيم جونغ أون، فسوف تكون التكلفة التي ستدفعها الولايات المتحدة في سبيل منح الشرعية للوصي على السجن الكوري الشمالي أكبر من أي وعود فارغة سنسمعها منه. ولكن بالنظر إلى أن الرئيس ترمب من ذلك النوع من الرجال الذي يهوى اللهو، كما يقال، علينا أن نعد أنفسنا للعرض القادم، وعلى ترمب أن يستعد أيضاً، وإن كان هذا لا يعني سهرات آخر الليل التي أتقنها ترمب، فالأمر يتعلق هنا بالصواريخ متوسطة المدى والمباحثات الدبلوماسية السابقة. ولذلك ينبغي على الرئيس الأميركي التواصل مع آخر مسؤول أميركي رفيع سافر إلى بيونغ يانغ، مادلين أولبرايت، ليتعلم من أخطائها.
كنت برفقة أولبرايت خلال تلك الرحلة في الأسبوع الأخير من أكتوبر (تشرين الأول) 2000. كانت تلك اللحظة هي الأدنى بالنسبة للدبلوماسية الأميركية التي قامت فيها وزيرة خارجية الولايات المتحدة - التي فرت عائلتها من «الستار الحديدي» - بالتقرب من نسخة تحاكي جوزيف ستالين. أنهت أولبرايت الزيارة بإهدائه كرة سلة موقعة بواسطة مايكل جوردان، واستمتع وفدها بمأدبة عشاء مع مسؤولين كوريين شماليين كانوا قد أذاقوا شعبهم ويلات المجاعة قبل ذلك بسنوات.
وبوصفها وزيرة للخارجية في عهد بيل كلينتون، سافرت أولبرايت إلى بيونغ يانغ في محاولة أخيرة من قبل إدارة ترى قمة أولويات سياستها الخارجية - اتفاق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين - تنهار أمام عينيها. كانت زيارة بيونغ يانغ فرصة في الشهور الأخيرة من فترة كلينتون.
غني عن القول هنا أن المبادرة لم تنجح، فقد كانت أولبرايت تتمنى لو أنها أنجزت العمل الذي بدأته إدارة كلينتون عام 1994 من خلال اتفاق مؤقت بشأن البرنامج النووي لكوريا الشمالية، وذلك بتوقيع اتفاق ملحق بشأن الصواريخ. وقد قدمت الولايات المتحدة ضمانات أمنية ووقوداً وشحنات طعام، وساعدت في بناء مفاعلات سلمية. وواصلت كوريا الشمالية تطوير واختبار صواريخها، وهو ما علمت به الاستخبارات الأميركية لاحقاً، وبنت مفاعلاً لتخصيب اليورانيوم سراً.
لن تتخيل البهرجة التي عاشتها بيونغ يانغ عام 2000، فقد حشرنا في حافلات لحضور عرض خاص بملعب مايو. وفي مناخ احتفالي كبير يوحي بكمال الحياة في دولة شمولية، تجمع مئات الآلاف من الكوريين الشماليين في الملعب، وقاموا برفع الصور بشكل متزامن لتصنع لوحة عن نشأة كوريا الشمالية، وظهر في لوحة أخرى إطلاق صاروخ «تاو بو دونغ». كتبت أولبرايت في مذكراتها، إن «القائد العزيز كيم جونغ (والد أون) التفت إليها في هذه اللحظة وقال: هذه أول عملية إطلاق لصاروخ هنا وستكون الأخيرة»، لكنه كذب فيما قال.
اللحظة التي علقت بذاكرتي كانت لحظة المصافحة الجماعية لأولبرايت. فعندما زارت مدرسة، وهو ما تكرر كثيراً خلال زيارات أولبرايت الكثيرة، قام الأطفال بأداء أغنية لضيفتهم الكبيرة. وقام المترجم المصاحب بترجمة الأغنية التي قالت باختصار إن الأطفال يقولون إنهم يتمنون أن ينضجوا ويحاربوا الأمبرياليين الأشرار الذين يهددون أرضهم السعيدة.
وثار جدل في نهاية الزيارة حول ما إذا كانت الزيارة تستحق القيام بها من الأساس. فحتى لو كانت هناك فرصة ضئيلة لموافقة كوريا الشمالية على بعض القيود على تطويرها للسلاح النووي، فإن قوة عظمى مثل الولايات المتحدة كان بإمكانها امتصاص بعض الإهانة في سبيل ذلك. لماذا لم نستغل الفرصة لجعل العالم أكثر أمناً؟
كانت هناك نقطة مهمة نسيناها، فبعد 18 عاماً نسينا أولبرايت ورحلتها الفاشلة إلى بيونغ يانغ. كانت لذكرى ذلك الفشل أثرها على صراعها مع قادة الاتحاد الأوروبي وحثهم على المساعدة في الإطاحة بالديكتاتور الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش. وفي النهاية سقط ميلوسيفيتش، لأن الصربيين لم يسمحوا له بسرقة الانتخابات عام 2000 التي دفعه الضغط الأميركي قبل ذلك إلى اقتناصها. لكن دبلوماسية أولبرايت الشديدة وضغطها لمحاكمته عن جرائم الحرب التي ارتكبها عندما كان في السلطة ساعدت في التمهيد لخروجه من المسرح.
هناك درس ينبغي على ترمب أن يتعلمه من كل هذا، وهو أنه عليه ألا يضيع وقته في التفاوض مع ديكتاتور كوريا الشمالية. مَن يصدق أن كيم لديه حقاً النية في التخلي عن أسلحته النووية؟ هو فقط يشتري مزيداً من الوقت. من الأحرى بترمب العودة إلى خطاب «حالة الاتحاد» العام الحالي الذي سرد فيه قصة المنشق جي سيونغ هو وقصة هروبه الأسطورية من معسكرات اعتقال كيم. قال ترمب إن رحلة جي إلى الحرية كانت «بمثابة رسالة بأن الحرية حق لكل إنسان». فمساعدة كوريا الشمالية في الحصول على هذا الحق الأساسي أصعب من الالتقاء مع طاغية هذه البلاد. فتلك المهمة تبدو واعدة أكثر وأقل اشمئزازاً.
- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»