سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

«نظرية المؤامرة» تجتاح الكوكب

في الفيلم الشهير للمخرج ميل غيبسون «نظرية المؤامرة»، تنخرط الدولة حتى انقضاء عهد الرئيس ريتشارد نيكسون في برنامج تدجين القاصرين نفسياً، لاستعمالهم في قتل الخصوم، لكن يأتي وقت يفلت هؤلاء من قبضة السيطرة والتحكم، ويرتكبون ما لا يمكن احتماله. وتصبح الدولة بسبب هذا البرنامج وغيره بالنسبة لجيري فليتشر بطل الفيلم المستوحى من قصة «توم أند جيري»، مسؤولة عن كل المصائب الكثيرة التي يتعرض لها وتودي به إلى حافة الموت تكراراً. وهو ليس الفيلم الأميركي الأول ولن يكون الأخير عن المؤامرات الداخلية التي تخرب البلاد وتؤذي العباد، والخارجية التي كثر تحميلها مسؤولية الفشل منذ مطلع القرن الحالي، وتحديداً بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول). وأخيراً صارت المؤامرة جزءاً من «تغريدات» الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورؤيته للعالم وخصومه، ودخلت في صلب الخطاب الرسمي. وليست مصادفة أن يحكم على 13 روسياً من قبل القضاء الأميركي قبل أيام بتهمة «التآمر»، منذ عام 2014، للتدخل «في السياسة الأميركية والعمليات الانتخابية بما فيها الانتخابات الرئاسية في عام 2016». وقيل، قبل ذلك، إن المخابرات الأميركية تآمرت أيضاً خلال هذه الانتخابات ضد المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون، فيما تدخلت روسيا لصالح ترمب.
هكذا يبدو المواطن الأميركي وهو يشك في أجهزة مخابراته ويخشى على أمنه القومي، ويشكك رئيسه في القضاء والإعلام، وتدور شبهة حول أهم استحقاق ديمقراطي لديه، وكأنه في حمى دولة صغرى تعاني تدخلات غامضة لا تعرف كيف ترد بلواها. وتضرب روسيا على الوتر حين تجيب أن الاتهام الأميركي «هراء... ويعكس الواقع السياسي الأميركي الحديث وحملة (هستيريا الكراهية) المزدهرة في المجتمع الغربي ضدها».
كلام المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، هذا لا يأتي من فراغ، فالمعركة بين الطرفين، محتدمة على أكثر من جبهة. وأصدر البنتاغون الشهر الماضي ما سماه «الاستراتيجية القومية للدفاع لعام 2018»، التي لم نرَ مثيلاً لها منذ عشر سنوات، يعيد فيها ترتيب الأولويات ويحدد رسمياً روسيا والصين «دولاً ضالّة» وعدوين أساسيين لأميركا، فيما تراجع التركيز على الإرهاب إلى الدرجة الثانية. وقال وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، حرفياً إن «المنافسة بين الدول العظمى، هي التي تتصدر الآن الاهتمام فيما يخص الأمن القومي الأميركي، وليس الإرهاب».
عودة إلى الحرب الباردة إذن، ومخاوف أميركا من روسيا والصين ومعها إيران وكوريا الشمالية، سببه الأول على ما يبدو تطور التقنيات التكنولوجية في دول صاعدة، في غفلة من الحسابات الأميركية. ومرّ خبر تحذير الحكومة الأميركية من استخدام تليفون «هواوي» الصيني عابراً. فنحن هنا لا نتحدث عن أسرار نووية أو معدات فضائية وإنما عن وسيلة اتصال لمواطن عادي يمكن أن تحظره دول متخلفة تقنياً تخشى اختراقها. لكن الأمر يمتد ليطول خشية أميركية على مجمل شبكة 5 جي التي تسعى فعلياً، لتأميمها وحمايتها من التجسس الصيني، خصوصاً أنها تعتقد أن بلاد التنانين لعلها ذهبت بعيداً في اختراق أمن الاتصال لديها.
يا لهؤلاء الصينيين الذين صنفوا أنفسهم طويلاً من الدول النامية وهم يزحفون في كل اتجاه بما في ذلك المحادثات اليومية الصغيرة، وغرف الاجتماعات الرسمية الكبرى. وهم فعلوا ذلك حين زرعوا أجهزة تجسس في مبنى «الاتحاد الأفريقي» في أديس أبابا الذي يفترض أنه هدية صينية بريئة لأصدقائهم في القارة السوداء. واكتشف أصحاب الهدية أنها مفخخة بأجهزة تنصت لمعرفة كل شاردة وواردة تدور بين القادة والوزراء الذين يجتمعون مرتين في السنة. مرارة كبيرة في أميركا كذلك، من الحيل الصينية التي أفلحت في سرقة أسرار تجارية ونووية كما صناعية، لا تزال تكلف الولايات المتحدة مليارات الدولارات سنوياً. وهم يسدون باباً من هنا، ليعثروا على نوافذ أخرى شرعت هناك، تسمح بالتلصص الإلكتروني. أكثر من ذلك، تندم أميركا على مساهمتها في إدخال الصين إلى «منظمة التجارة العالمية» ظناً منها أنها تسهم في انخراطها في النظام العالمي الحر، فإذا بهذه الأخيرة تستفيد مما تتيحه لها عضويتها لتضرب أقطابه من الداخل.
التكتلات الجديدة، والقوى الصاعدة تؤرق أميركا. وعودة «نظرية المؤامرة» لتحتل الصدارة في بلاد العم سام لها ما يبررها، وهي في طور النمو في أوروبا أيضاً. فمن غرائب الدراسات الأخيرة أن 79 في المائة من الفرنسيين يعزون لـ«نظرية المؤامرة» كثيراً مما يتعرضون له من إخفاقات وطنية.
وإذا كانت روسيا هي شيطان الأميركيين الأكبر خلال الحرب الباردة السابقة، فلعل الصين هذه المرة ستعلم الطرفين معاً، أن فن كشف أسرار الآخر أهم عنصر في المعركة، إذ يقال إن «الصيني يتجسس كما يتنفس» وهذا صحيح. فهي استراتيجيتهم منذ كتب عنها الجنرال المقدام سون تسو منذ 2500 سنة في كتابه الشهير «فن الحرب» مخصصاً للجاسوسية وفنونها الفصل الأخير الأكثر إمتاعاً. ومن ابتكاراتهم أنهم كانوا يرسلون للتجسس على العدو عائلة بأكملها، لا شخصاً واحداً، كي يمنعوا أي فرد منهم في حال قبض عليه أن يعترف بأسماء بقية الجواسيس الذين معه، حين يكونون فلذة كبد أو أباً أو أخاً. وفي رواية شديدة الظرف لرحالتنا الجليل ابن بطوطة أنه حين زار الصين، استغرب حين رأى رسمه الذي أدهشه إتقانه منشوراً ومعلقاً على الطرقات، ليكتشف أنها إحدى الاستراتيجيات الصينية العجيبة، أن يرسم وجه الغريب ويوزع في كل الولايات، كي يبقى معروفاً، ومراقباً أينما حلّ وارتحل. «نظرية المؤامرة» قديمة عرفها اليونانيون، وأججتها الحرب النازية ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية، ويقال إن الأمم تستعيدها حين تشعر بالاضطهاد والضعف ويغادرها الإحساس بالأمن والتفوق. إنها مرحلة الشك وانعدام الثقة، لدى أكثر الشعوب قوة وسطوة، فلا عتب، إذن، على الأمم المفلسة، مهيضة الجناح.