د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

كيف تحولت كوريا الجنوبية؟

تعد كوريا الجنوبية مثالاً حياً وقصة واقعية لنجاح أمة، وتحولها من شعوب محطمة إلى إحدى كبريات الدول في العالم. فبعد أن أنهكتها الحرب العالمية الثانية، دخلت كوريا في حروب أهلية انتهت بانقسامها إلى كوريتين؛ شمالية وجنوبية، سيطر عليهما الاتحاد السوفياتي (آنذاك) والولايات المتحدة الأميركية. بدت كوريا الجنوبية حينها في حالة ميؤوس منها، حتى صرح الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آرثر بأن كوريا ليس لها أي مستقبل ومن الصعب أن تنهض بنفسها حتى لو بعد مئات من السنين. ولم تكن هذه وجهة نظر الرجل العسكري فقط، فقد عبر حينها فينجاليل مينون، مسؤول الأمم المتحدة عن خطة السلام في كوريا، عن صعوبة عودة كوريا بقوله: «كيف لزهرة أن تنبت من بين الحطام؟».
باقتصاد يعتمد تماماً على الزراعة وصيد الأسماك، وبشعب غير متعلم أنهكته الحروب المتوالية، كان أمام المسؤولين الكوريين مهمة شبه مستحيلة للنهوض باقتصاد دولتهم الكسيرة. كان معدل الدخل القومي في بداية الستينات الميلادية من القرن الماضي 82 دولاراً للفرد، والصادرات الكورية أقل من 40 مليون دولار، ومعدل الأعمار أقل من 55 سنة. بهذه الأرقام كانت كوريا الجنوبية تحتل مرتبة متدنية بين دول العالم، ولم يكن لها أي وجود بين أفضل 100 دولة في العالم.
بعد سنوات من الكفاح والتقلبات السياسية، انتقلت كوريا إلى ما هي عليه اليوم. وأصبحت من أفضل 10 دول في العالم في الصادرات بما يزيد على 560 مليار دولار سنوياً، وزاد معدل الأعمار في كوريا إلى 80 سنة لتصبح من أفضل 20 دولة في العالم، وأصبح معدل دخل الفرد السنوي يزيد على 27 ألف دولار.
مرت كوريا الجنوبية بالكثير من التحديات الاقتصادية خلال هذه العقود، كان أكبر هذه التحديات هو التحول من اقتصاد يعتمد بشكل أساسي على الزراعة إلى اقتصاد يتكئ على الصناعة والتعدين. شكّل المزارعون ما يزيد على 63 في المائة من القوة العاملة في كوريا الجنوبية في ستينات القرن الماضي، وتغيرت هذه النسبة إلى أقل من 7 في المائة في الوقت الحالي. بين النسبتين، تحول اقتصاد كوريا من الاعتماد بنسبة 60 في المائة على الزراعة، إلى أقل من 5 في المائة. وزادت مشاركة القطاع الصناعي في الناتج القومي من 12 في المائة إلى أكثر من 32 في المائة. هذه التغيرات ليست اقتصادية فحسب، فحتى تمكنت كوريا من الوصول إلى هذه النتائج كان عليها القيام بالكثير من التغييرات في البلاد؛ تغييرات جذرية على النطاق التعليمي والتجاري والصناعي.
كانت بذرة التطور الصناعي في كوريا الجنوبية هي إنشاء وزارة للعلوم والتكنولوجيا عام 1967، وتولت هذه الوزارة في السبعينات نقل وتوطين العلوم والتقنيات من دول العالم إلى كوريا، وتولت مراكز الأبحاث الحكومية هذه المهمة لتتمكن من اختيار التقنيات التي تتوافق مع الخطة الحكومية لتطوير البلاد. كانت هذه الخطوة بدافع إدراك الحكومة الكورية أن المعلومة هي العنصر الأهم في تطور الصناعة، وأن كوريا إن لم تتمكن من تصنيع منتجات فريدة، فإنها لن تتمكن من تصدير صناعاتها للخارج.
في الثمانينات، ركزت الحكومة على تطبيق التقنيات المستوردة في مصانعها، وقامت مراكز الأبحاث الحكومية بالتعاون مع كبريات الشركات بتطوير هذه التقنيات والاستفادة منها. وبحلول التسعينات، كانت الشركات قد أدركت أهمية عنصر البحث والتطوير في العملية الصناعية، وبدأت تدريجياً بالاستغناء عن مراكز البحث الحكومية وإنشاء مراكز الأبحاث الخاصة بها حتى أصبحت كوريا اليوم الدولة الأولى بنسبة الإنفاق على البحث والتطوير بما يزيد على 4 في المائة من الناتج القومي.
لم تكن النهضة الاقتصادية للصناعة الكورية نتاج عمل القطاع الخاص فقط، بل كان نمو القطاع الصناعي في كوريا نتيجة مباشرة للعمل الحكومي، فقد قامت الحكومة خلال هذه العقود بالأخذ بيد القطاع الخاص وتوجيهه حسب الرؤية الحكومية المستقبلية. وبعد أن نما القطاع الخاص ونضج، أصبح اليوم المصدر الرئيس للوظائف في كوريا وشريكاً فعلياً للحكومة الكورية، حيث تبلغ نسبة الموظفين في القطاع الخاص أكثر من 81 في المائة من القوة العاملة. وزادت قوة القطاع الخاص في كوريا حتى وصلت مشاركته في الناتج القومي إلى أكثر من 89 في المائة. هذه الأرقام هي نتاج عمل حكومي خلال عقود من السنين، عمل كانت شفافية الحكومة فيه عاملاً رئيساً للمشاركة الشعبية بهذه النهضة، وتحولت خلاله كوريا من بلد عسكري أنهكته الحروب، غالبية شعبه من الفلاحين، إلى بلد تبلغ نسبة الجامعيين فيه أكثر من 80 في المائة، ويتصدر الدول الصناعية في العالم. فكيف لشعب أن يأخذه اليأس من اقتصاد بلاده بعد التأمل في المثال الكوري؟