نائب الرئيس الأميركي جو بايدن لم يحضر إلى أنقرة هذه المرة، لأنه يعرف أن الأتراك سيخيبون أمله، ولن يضعوا بين يديه أي تعهد أو ضمانة أو تنازلات بعدما خيب آمالهم هو في قضايا حاول لعبها ضدهم لإضعافهم وعزلهم إقليميا، والتلويح دائما بقدرات واشنطن على إسقاط حكومة «العدالة والتنمية» إذا تحولت إلى حجر عثرة في طريقها. لكن زيارته إلى جزيرة قبرص كان جدول أعمالها ونقاشاتها وأهدافها الأساسية هو توجيه التحية لإردوغان وأنقرة بعد نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة التي كرست معادلة أن الحوار الأميركي مع تركيا لا يمكن أن يكون سوى عبر إردوغان أولا وأخيرا.
بايدن جاء قبل ثلاث سنوات إلى تركيا مهددا متوعدا، وغادر مخيبا آمال حكومة رجب طيب إردوغان في مساعدتها على الخروج من أكثر من أزمة وورطة داخلية وخارجية. لكن الحقيقة هي أن الأتراك هم الذين خيبوا آماله طيلة السنوات الأخيرة بعدما لم يأخذوا بنصائحه وإرشاداته وحتى تهديداته، وتحركوا منفردين رغم معارضة واشنطن لفتح أبواب الحوار والمصالحة وتعزيز العلاقات الإقليمية والدولية مع لاعبين حذرت إدارة البيت الأبيض منهم مثل روسيا وإيران والصين، لكنها لم تتردد هي في الانفتاح عليهم ومساومتهم في أكثر الملفات سخونة وحساسية هذه المرة.
هو جاء يرمم ما أفسده قبل أعوام عندما حمل التهديدات لأنقرة بسبب سياستها المتوترة مع إسرائيل، وانفتاحها المتزايد على روسيا تجاريا وسياسيا، وإغضابها الدائم للمالكي في العراق، وترك إردوغان وحيدا في بحر ثورات الربيع العربي يدفع ثمن مواقفه في سوريا ومصر وليبيا. وربما بادرته الأولى كانت توجيه رسالة تحية للأتراك من خلال استقبال واشنطن رئيس التحالف السوري المعارض قبل ذهابه إلى قبرص، لكن الغصة تبقى متابعته من بعيد عقود التفاهم الروسي - الصيني الاستراتيجي الأخيرة.
بايدن جاء يساوم بلغة وأسلوب آخرين هذه المرة أمام المتغيرات والتحالفات الإقليمية والدولية الجديدة التي بدأت تظهر إلى العلن، فهو يعرف أن أنقرة لم تعد قلقة وحذرة بعدما ثبت لها تقدم المشروع الروسي استراتيجيا على الأرض في أكثر من مكان، وهي ستعطي قراراتها في إطار ما تتطلبه مصالحها الإقليمية، خصوصا إذا ما كان بايدن هو بيت القصيد، كونه الشخصية الأميركية الأهم التي سعت دائما ومنذ مطلع الستينات لتوتير علاقات تركيا باللوبيات الأرمنية والإسرائيلية والقبرصية اليونانية، ووقف ضد مصالح أنقرة في شمال العراق، وموضوع حزب العمال الكردستاني، وكلها ملفات تتمسك حكومة إردوغان بمعالجتها رغما عن بايدن وتصلبه وتهديداته.
بايدن فشل في إقناع أنقرة يومها بالتخلي عن رهانها على حلم جمع التناقضات الإقليمية في سلة واحدة، وعلى عودة روسية قوية إلى المنطقة عبر سوريا وإيران والصين، وها هو يأتي مجددا في محاولة لإنقاذ ما فشل في تحليله والتنبؤ به حول حقيقة العودة الروسية في محاولة للمساومة بالورقة القبرصية والإسرائيلية لإقناع تركيا بأهمية هذه الفرص البديلة.
بايدن جاء يومها محملا بالوعود والتعهدات ويحذر إردوغان من لعب الورقة الخاطئة، لكن أنقرة خيبت آماله في السنوات الثلاث الأخيرة عندما حافظت على علاقاتها التجارية مع إيران وروسيا، ودخلت في حوار مفتوح مع حزب العمال الكردستاني، وحركت رياح شمال العراق باتجاه تحالفات تجارية وسياسية جديدة أغضبت واشنطن نفسها قبل أيام بعد فتح الأنابيب أمام تصدير نفط أربيل، وهي تسعى الآن عبر تحركات مباشرة باتجاه تل أبيب لإنجاز المصالحة وإعادة العلاقات إلى سابق عهدها بعدما طال انتظار الوساطة الأميركية الحقيقية في هذا الملف.
الذي حمل بايدن إلى المنطقة هي الهجمات الروسية والضربات الاستراتيجية الموجعة التي توجهها للمصالح الأميركية في المنطقة وخارجها.. هو غاز شرق المتوسط، ورفض أوروبا التخلي عن علاقاتها مع روسيا، والتقارب الروسي - الصيني - الإيراني، وربما السياسيات الانفرادية لتركيا باتجاه تحسين علاقاتها مع إسرائيل وأربيل، والتمسك بطهران وروسيا، ولعب ورقة بكين العام الماضي في صفقة الصواريخ التي أغضبت البيت الأبيض.
بايدن جاء يغري البعض بحلم أميركي في بناء تحالف تركي - إسرائيلي يمر عبر قبرص، ويحمي حصتها ونفوذها في مشاريع الطاقة في شرق المتوسط، لكنه يعرف أن التحرك الأميركي هذا جاء متأخرا جدا، وترجمته تحتاج إلى هدايا وأثمان باهظة تقدمها الإدارة الأميركية بعدما لم تعد أساليب التهديد والتخويف التي اعتمدها بايدن مع دول المنطقة تنفع كثيرا، خصوصا أن موسكو بنت منظومة علاقات لا يمكن التفريط فيها مع شركاء وحلفاء واشنطن وأهل البيت أنفسهم.
هو جاء لأنه شعر أن الخيط الرفيع في مسار العلاقات التركية - الأميركية عرضة للانقطاع، وأن إردوغان الذي يريد أن يرى الشيء العملي المحسوس والملموس هذه المرة في الموضوع السوري، والكيان الموازي لجماعة فتح الله غولن، وتبديل أسلوب لعب ورقة حكومة المالكي ضدها، سيطيح بكل شيء تماما كم حدث عام 2003 إبان الحرب الأميركية على صدام حسين.
هو جاء إلى المنطقة لأنه بات يدرك أن الورطة الوحيدة التي ما زالت تقف عقبة أمام حكومة إردوغان، وهي تبحث الآن عن المخرج الملائم لها بعد وصول إردوغان إلى قصر الرئاسة في شنقايا، هي مراجعة سياستها في ثورات الربيع العربي والارتدادات السلبية الكثيرة التي عانت منها، وفي مقدمتها التفريط في علاقاتها مع مصر بعدما سقطت في الفخ الأميركي الذي تركها وسط الحفرة ومضى دون أن ينظر خلفه.
بايدن يأتي إلى المنطقة في محاولة لمنافسة الروس في العروض والمساومات وتقديم الخدمات وقطع الطريق على مشروع التحالف الاستراتيجي الواسع الذي يرى البعض أن لا مكان لأميركا فيه بعد الآن، لكنه ينسى أن إسرائيل أيضا بدأت تتحرك وتغرد خارج السرب الأميركي عندما شعرت أن واشنطن تساوم على حسابها ومن وراء ظهرها في مسائل قادرة هي على معالجتها وحلها مباشرة، وبينها التسويق لاحتياطاتها الغازية، والتفاهم مع تركيا وقبرص وروسيا لتصديرها إلى أوروبا.
هذا إذا لم نشأ التوقف مطولا عند حقيقة أن واشنطن تتجاهل أن الاتحاد الأوروبي غير قادر على لعب ورقة العضوية القبرصية في المجموعة الأوروبية ضد روسيا بسبب حجم التقارب وتداخل المصالح التجارية المالية بين القبارصة اليونان وموسكو.
أنقرة تعرف أن بايدن هو الذي قاد مشاريع محاصرتها سياسيا وعسكريا واقتصاديا في منتصف السبعينات بعد دخولها العسكري إلى شمال الجزيرة، وتعرف أيضا أن بايدن نفسه هو الذي وقف أمام رئيس الوزراء التركي بولانت أجاويد عام 1999 يخاطبه مهددا: «أنتم تحتاجون إلينا، وليس نحن من نحتاج إليكم. افعلوا ما نقوله في الموضوع القبرصي وخذوا القروض التي تحتاجون إليها». لكن بايدن لا يعرف، ربما، أن تركيا سددت كثيرا من قروضها الدولية، وهي التي تقدم القروض والمساعدات للمحتاجين اليوم، وتتحرك باتجاه المصالحة مع هذه اللوبيات لإسقاط هذه الورقة السياسية من يد بايدن.
بايدن يأتي متأخرا كثيرا إلى المنطقة، والمثل العربي هو أفضل ما يردد هنا: «اللي سبق شم الحبق».
8:32 دقيقه
TT
بايدن يصل متأخرا إلى المنطقة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة