عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

فن الاحتجاج الاستهزائي

كان حظ رئيسة الوزراء تيريزا ماي في المؤتمر السنوي لحزب المحافظين الحاكم عاثراً، حسب مقولة نجم الكوميديا الراحل نجيب الريحاني: «حظي يا محترم... لو سقطت زهرية ورد من بلكونة في شبرا، وأنا في العتبة، لوقعت على رأسي أيضاً». وكانت إصابة ماي بنوبة سعال شلتها عن إخراج العبارات التي قضت وقتاً طويلاً في إعدادها، ثم تساقط حروف شعار يافطة حزبها للمؤتمر معطية معنى معاكساً لا يكفي، فإذا بورقة يقدمها شخص إليها وتنقل عدسات الكاميرات تفاصيلها: الاستمارة بي 45 من مصلحة الضرائب، أي استمارة الفصل من العمل.
لا أشارك معلقي العالم الثالث شغفهم بـ«عندنا وعندهم» أي كيف أن الكوميديان الذي استخدم أدوات السخرية التقليدية للاحتجاج على سياسة الحكومة ولمس بيده رئيسة حكومة بريطانيا العظمى، لم يتعرض للإهانة ولم يوجه إليه البوليس تهمة رغم سرقته الأضواء والكاميرات من رئيسة الحكومة، فلم يخرق قانوناً ولم يتقدم أحد بالشكوى.
ما يهمني هو مشاركة القراء ثقافة معروفة في بريطانيا والديمقراطيات الغربية، تقليد الـprank protests وهو احتجاج الشخص المتنكر الساخر. فالكلمة الأولى من الاسم والفعل أي التقليد التنكري.
فالكوميديان سيمون برودكين، تنكر كمندوب لجمعية شعبية تابعة للمحافظين ودفع اشتراك حضور المؤتمر ليومين (بالمناسبة الأحزاب في المجتمعات الديمقراطية تجمع التبرعات من الأعضاء والمواطنين الذين يأملون أن برامجها السياسية عند تطبيقها ستفيدهم اقتصادياً واجتماعياً) واجتاز كل الاختبارات الأمنية.
ومسألة لعب الحيل والتنكر مظهرياً أو صوتياً هي جزء من الحياة الديمقراطية في بريطانيا والمجتمعات الغربية الديمقراطية، وقد تتخذ أحياناً ما قد يعتبر في المجتمعات الشرقية تطاولاً وقلة أدب، لكنها جزء عادي من الثقافة السياسية الديمقراطية، ويتقبلها الساسة بصدر رحب، بل يرحب بها البعض كنوع من إقناع الناخب أن الزعيم ورجل السياسة هو شخص عادي خفيف الظل (أكثر نقد يخشاه السياسي البريطاني هو الاتهام بأنه ثقيل الدم ويفتقد روح الدعابة).
وهناك تنكرات شهيرة احتجاجية ساخرة، كالتي تعرض لها رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون في الحملة الانتخابية عام 2015 عندما رفض الدخول في مناظرة تلفزيونية، فاتهمته المعارضة العمالية بالجبن.
الدجاجة هي رمز الجبن في الثقافة الإنجليزية، والقول الإنجليزي «تشيكيند آوت» أو تدجج خارج الحلبة، أي جبن عن مواجهة الموقف.
كلفت صحيفة «الديلي ميرور»، ومعظم قرائها من مؤيدي حزب العمال، أحد صحافييها الشبان بالتنكر في زي دجاجة عملاقة صفراء اللون ومتابعة كاميرون كظله في الشارع وحملاته الانتخابية والرقص وراءه أثناء المقابلات التلفزيونية المبثوثة على الهواء.
كاميرون، كان يخوض الحملة الانتخابية وهو رئيس للوزراء، لم يكن لديه أية أدوات قانونية لمنع دجاجة الاحتجاج العملاقة من الظهور معه، فالاحتجاج وحرية التعبير جزء من الحياة الديمقراطية العامة، والصحافي أبو دجاجة لم يخرق قانوناً.
مارغريت بيكيت، نائبة رئيس الوزراء ثم وزيرة الخارجية في الحكومة العمالية السابقة (1997 - 2010) ضحك عليها الكوميدي الساخر روري بريمنير (وهو عبقري في تقليد أصوات الناس) في مكالمة تليفونية مرة وقلد صوت غوردن براون، وكان رئيساً للوزراء في 2009 ووقعت في الشرك. بريمنير نفسه تمكن في مكالمة تليفونية من التحايل على عاملة السويتش في رقم 10 داوننغ ستريت، ثم مسؤول المكالمات في مكتب توني بلير، فالسكرتير الخاص له مدعياً أنه ويليام هيغ (وكان زعيماً للمعارضة وقتها) وكاد بلير يقع في الفخ حتى أخطأ بريمر وبدأ يتحدث كأنها مكالمة دردشة اجتماعية، بدلاً من الخوض في أمور سياسية، وكان رد بلير حذراً، لكنه بيّن بوضوح أنه كشف اللعبة.
المهم في الأمر حضور الذهن وسرعة البديهة ورد المحتج على عقبيه بحذاقة.
فمثلاً عندما سلم الكوميدي برودكين السيدة ماي استمارة إنهاء الخدمة، كان ردها هزيلاً بالقول: «أنا سأسلم الاستمارة إلى جيرمي كوربين (لكن زعيم المعارضة لم يكن موجوداً وليس جزءاً من المؤتمر).
وقارن ذلك مثلاً بسرعة بديهة السير وينستون تشرشل عندما اتهمته النائبة الليدي أستور (أول امرأة تدخل مجلس العموم) أثناء مناظرة برلمانية ساخنة بأنه يسمم الحياة السياسية، وقالت: «لو كنت زوجتك لدسست السم في شرابك» فرد فوراً: «لو كنت زوجك يا سيدتي لحمدت الله على تجرع السم المميت».
وهناك احتجاجات تتجاوز اللفظ والتنكر إلى تلويث الوجه والملبس، أهمها ما يعرف بفطيرة الكستردة، التي استبدلت في الأزمنة الحديثة بالأصباغ المهينة ورغوة صابون الحلاقة. والأخيرة مثلاً كادت تصيب إمبراطور الصحافة روبرت ميردوخ أثناء استجوابه أمام لجنة الصحافة والثقافة في مجلس العموم، حيث وضع كوميديان الرغوة على طبق ورقي، مقلداً فطيرة كستردة حاول أن يلصقها في وجه المليونير، لكن زوجة ميردوخ، ويندي، اعترضت طريقه ودفعت بها في وجهه هو. لكنها تلقت جزاء سنمار، إذ طلقها ميردوخ منذ ثلاثة أعوام إثر إشاعة عن علاقتها بتوني بلير. بلير نفسه أثناء لقائه الأسبوعي في مجلس العموم عام 2004 تعرض لقذيفة أصباغ المهرجين البنفسجية اصطدمت بقفاه، أطلقها من منصة الجمهور رون ديفيز زعيم جماعة الآباء من أجل العدالة، احتجاجاً على حرمان القضاء لهم من زيارة الأولاد المقيمين مع الزوجة المطلقة.
صديق بلير اللورد بيتر ماندلسون تعرض لتطوير جديد من فطيرة الكستردة ألقتها المحتجة الشابة ليلي دين عام 2009، وكانت عبارة عن فنجان ضخم مملوء بكستردة مصبوغة باللون الأخضر.
وكانت الأفلام الصامتة وكوميديا الأبيض والأسود قلدت شارلي شابلن في استخدام فطيرة الكستردة (وأنواع أخرى من الطعام) لإلقائها في وجه ممثل السلطة والمسؤولين وأصحاب النفوذ (كمدير البنك، وصاحب البيت، وحكمدار الشرطة).
وأول ذكر في التاريخ لاستخدام المأكولات للاحتجاج كان في عام 63 ميلادية عندما تعرض فيسباسيان، وكان الحاكم الروماني لما يعرف اليوم بتونس وليبيا، لقذائف من البنجر واللفت، احتجاجاً على زيادة الضرائب.
أما في العصر الحديث، فقد استبدلت بقذائف البيض، وهي مؤلمة وتترك بقعاً يصعب التخلص منها، وأسوأ الساسة حظاً كان زعيم العمال السابق إدوارد ميليباند الذي تلقى قذائف البيض التي أصابته بالفعل ثلاث مرات في جنوب لندن، وفي ساوثهامبتون، وأكسفورد في غضون ثلاثة أسابيع أثناء الحملة الانتخابية في 2015.
وقد تعرض كاتب هذه السطور للقذف بالبيض أثناء محاضرة في إحدى الجامعات الإنجليزية من طلاب يساريين اتهموني بتأييد الحروب، وقلت للبوليس إنني متنازل عن المحضر ولا أطالب بتعويض، فالذي سيدفع التعويض ليس التلميذ قاذف البيض وإنما والده المسكين.