مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

مرحلة ما بعد كسر الجليد

مع حرارة الصيف العراقي، يبدو أننا تخطينا مرحلة «كسر الجليد» بين العراق ومحيطه العربي. ومثلما ذكرت في مقالي قبل أسبوعين، زيارة رجل الدين العراقي وزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، السعودية كانت محطة في فصل مهم من توطيد العلاقات العراقية – السعودية، ومن خلالها علاقات بغداد مع عواصم عربية عدة. وبعد زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الرياض في يونيو (حزيران) الماضي تضاعفت نقاط التواصل العراقية – العربية. وخلال الأسبوعين الماضيين فقط، زار وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بغداد ومن ثم زارها وزير الخارجية البحريني الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة. كما زار وزير النفط العراقي عبد الجبار اللعيبي السعودية واستقبله نائب خادم الحرمين الشريفين الأمير محمد بن سلمان. وبعد زيارة الصدر السعودية، قام رجل الدين العراقي بزيارة دولة الإمارات، حيث استقبله ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد في تطور مهم يدعم نهج تصحيح سير العلاقات العراقية - العربية، وهو ما يتبناه رجل الدين مقتدى الصدر كما عبر عنه مجدداً عبر مقابلته الأسبوع الماضي مع «الشرق الأوسط».
وبعد أن توجهت كل الأنظار باتجاه معركة هزيمة «داعش» في العراق، يجب تثبيتها اليوم على إعادة الإعمار –والمقصود هنا ليس فقط إعادة الإعمار الأساسي للبنى التحتية وإعادة تأهيل مدن وبلدات كاملة في العراق– بل أيضاً إعادة إعمار التركيبة السياسية وتصحيح وضع العراق الداخلي والإقليمي. ومن هنا يمكن بناء السياسات السليمة داخلياً وإقليمياً التي تحصن العراق. وبينما العامل المباشر لدحر الإرهاب يعتمد على مواصلة العمليات العسكرية والأمنية وتأهيل الشرطة والجيش العراقيين، إلا أن استقرار العراق وازدهاره يحتاج إلى مكافحة الفساد وبناء دولة تحمي مواطنيها، بغض النظر عن خلفيتهم الطائفية أو العرقية، وتطوير اقتصاد يمكنه مواجهة تحديات العصر.
هناك عامل مهم يجب ألا يغيب عن من يراقب التطورات في العراق، وهو وجود الجيش الأميركي في العراق مجدداً إثر عمليات مقاتلة «داعش»، ومنها الإعداد لإنشاء قاعدة عسكرية بالقرب من بلدة تلعفر، ذات الموقع الاستراتيجي شمال العراق، غرب الموصل. وفي حال أنشئت القاعدة العسكرية، ستكون هذه ضربة جديدة لأطماع نظام طهران وخاصة الحرس الثوري الإيراني، إذ سيقطع الوجود الأميركي المد العسكري الإيراني الذي يهدف إلى ربط إيران عبر العراق بسوريا وحتى الوصول إلى لبنان. وهذا الخطر، المبني على خطط إيرانية عسكرية وسياسية تهدف للسيطرة على أجزاء عربية حساسة، لا علاقة له بالطائفية. الحديث عن إيران وتهديدها للمنطقة، الواضح مع إعلانها زيادة ميزانيتها للصواريخ الباليستية مجدداً أول من أمس، يجب أن يبقى في حيز التهديد العسكري والاستراتيجي. وهذا موضوع يجمع عليه قادة في الخليج وأبرز المسؤولين الأميركيين في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بمن فيهم الجنرال إتش أر ماكماستر، كبير موظفي البيت الأبيض، الذي كان شاهداً خلال وجوده في العراق على دور طهران السلبي. وكان ماكماستر المسؤول عن تأمين تلعفر عام 2004 واليوم يراقب عن كثب ما يدور فيها، ويحرص على تأمين مستقبلها بطريقة كي لا يضطر لرؤية عودة جنود أميركيين للقتال فيها مرة أخرى.
لن ترتاح جهات عدة لهذه التحركات بين العراق والدول العربية، ولا بالعمل على تأمين العراق عسكرياً ومادياً، وعلى رأسها النظام الإيراني الذي لطالما سعى لعزلة بغداد.
ولذلك تتواصل المحاولات لتخريب هذا المسار الجديد، من مهاترات عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى تحركات ساسة عراقيين مدعومين من قبل إيران للتقليل من أهمية الانفتاح العربي على بغداد. ورأينا المحاولات الإيرانية من الآن لإحراج العراق. فعلى سبيل المثال بثت وكالات أنباء إيرانية خبراً زائفاً قبل يومين يدعي أن وزير الداخلية العراقي –قاسم الأعرجي– قد صرح بأن السعودية طلبت وساطة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مع إيران. وسارع الأعرجي بنفي هذا الخبر وموضحا أن مثل هذه الوساطة لم تطلب من قبل الرياض أساساً. هذه الإشاعة من إيران تسعى إلى إحراج الطرفين العراقي والسعودي، كما حدث في السابق، ولكن لن تنال من القرار الاستراتيجي العراقي والخليجي لمرحلة ما بعد كسر الجليد. المطلوب اليوم مرحلة تمتين العلاقات.
من الضروري دعم هذا القرار بخطوات ملموسة تجعله دائمياً، من فتح مجالات تعاون اقتصادي يفيد العراق ودول جواره إلى رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي الذي يضمن التواصل بين قوى وشخصيات الطرفين. كما يعتمد على مد جسور بين شخصيات مختلفة في العراق وبناء على المصالح المشتركة. ربما أكبر العثرات أمام العراق منذ حرب 2003 كانت في التصور الخاطئ السائد بأن الحل يكمن في توزيعة طائفية وإثنية بين الشيعة والسنة والأكراد –مما أدى إلى عوامل شاذة عدة في العراق على رأسها التصور أن أي علاقات عربية مع العراق تكون محصورة بقوى وحركات «سنية عربية»، وهي تسمية كانت غريبة على المنطقة قبل حرب 2003. وزيارة الصدر، وهو سليل عائلة شيعية لها وقعها في العراق وخارجه، إلى السعودية والإمارات تكرس هذا الرفض للطابع الطائفي الذي سعى البعض، من الجانبين، الشيعي والسني، المتطرفين، لفرضه على علاقات العراق بالعالم العربي. وظهرت صورة لقاء الصدر برجل الدين العراقي الشيخ أحمد الكبيسي في أبوظبي لتعيد إلى الأذهان أهمية وجود فضاء رحب لتفاهم العراقيين بدعم عربي.
هذه العلاقات الشخصية والرسائل عبر التصريحات والصور العلنية تعطي إشارات مهمة للشعب العراقي وشعوب الدول العربية بأن المرحلة المقبلة ستنتقل من كسر الجليد إلى بناء الجسور.