مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

ثقافة «فاتني القطار»

«فاتني القطار» تلك العبارة المستخدمة في العنوان‏ تعري ثقافة أساسها الهروب من تحمل المسؤولية كاملة وبشكل مباشر عن أعمال نقوم بها وتحميلها لطرف ثالث من عالم اللامعقول. في الإنجليزية مثلا يقول الفرد I missed the train وتعني «أنا لم ألحق بالقطار» أي أن المسؤولية تقع عليه، أما في لغتنا فالمسؤولية تقع على القطار. تذكرت هذه العبارة الكاشفة بعد حادث قطار الإسكندرية الذي راح ضحيته 41 إنساناً ووصل عدد الجرحى إلى 179 جريحاً، وكذلك الحوار المصري عن المسؤولية عن هذا الحادث والذي يقيد القضية ضد مجهول في النهاية، لا أحد مسؤول عما حدث ويقال ذلك بطرق مختلفة مثل «الحوادث تحدث في كل الدنيا» متجاهلين الإحصائيات المصرية ومقارنتها بالإحصائيات في الدول الأخرى. فحسب تقرير السكك الحديدية المصرية وهيئة التعبئة والإحصاء فإن عدد حوادث القطارات في مصر بلغ 716 حادث قطار في عام 2016 وحده. ولم يتحمل رئيس هيئة السكك الحديدية المسؤولية بل رحل المسؤولية بعيداً على طريقة فاتني القطار، إذ قال بيان هيئة السكك الحديدية ما نصه «تلك الحالات ترجع إلى السلوك الخاطئ للمارة وقائدي المركبات وعدم اتباعهم قواعد المرور على المزلقانات ومخالفة القانون رقم 277 لسنة 1959 في شأن نظام السفر بالسكك الحديدية وتعديلاته». هيئة السكك الحديدية غير مسؤولة، الناس مسؤولون عن موت بعضهم البعض. هذا مثال ساطع على ثقافة «فاتني القطار».
جانب آخر من الحوار المصري هو أن ما يحدث لقطارات مصر يحدث في كل الدنيا وربما مصر أفضل. ولكن إذا ما قارنا مثلاً حوادث القطارات في مصر وعدد الضحايا بين بلد كمصر وبريطانيا نجد أن التقرير البريطاني يقول مثلاً إنه في عام 2015 لم يكن هناك أي ضحايا لحوادث القطار، وهي السنة الثامنة على التوالي التي لم تسجل أي ضحايا لحوادث القطارات. ويمكن قراءة التقرير هنا (http://orr.gov.uk/). النقطة الأساسية أن الحوار المصري حول المسؤولية عن حوادث القطارات فصار يلقي باللوم على كل شيء إلا من يجب أن يتحملوا المسؤولية، وهو حوار تحركه بعض الأجهزة في بلد أصبحت فيه حوادث القطارات ظاهرة وليست حوادث. فالحوادث تعني ندرة الحدث أما تكراره فيعني أننا أمام ظاهرة وليس حادثاً.
رغم أهمية حادث تصادم القطارات في مصر وفداحته فإنني أود مناقشة ثقافة فاتني القطار بشكلها الأوسع في المجتمعات العربية.
«فاتني القطار» هي ثقافة ومرض اجتماعي ولغوي يبرر الهروب من المسؤولية وتبعات الأفعال التي نكون نحن ولا أحد غيرنا مسؤولين عنها‏، فعندما تقول فاتني القطار فكأنك تلقي مسؤولية عدم وصولك إلى غايتك على القطار‏، ورغم أن جميعنا يعرف أن القطارات تسير حسب مواعيد محددة‏، فإننا نقبل هذا العذر‏، فليس هو الذي تأخر عن موعد القطار‏، لا‏!...‏ القطار هو المسؤول لأنه لم ينتظر صاحبنا‏. ليس هذا فقط‏، ولكن في بعض الأحايين يتبرع من الاعتذاريين بعذر آخر يدفع بالمسؤولية إلى درجة أبعد‏، وقد حضرت حواراً لرجلين أحدهما يبدي اعتذاراً لثالث قائلاً: إن القطار فاته‏، ولما ناقشه صاحبه في الأمر تبرع من مع محدثه بالاعتذار التالي: هو في الحقيقة لم يفته القطار لأنه كسول‏، بل أخذته نومة، وها هو يسير على نفس نهج صاحبه‏، أي أن صاحبنا لم ينم ولكن النوم نفسه هو الذي أخذه من عالم اليقظة والصحو‏، وفي كلتا العبارتين‏، سواء في عبارة من فاته القطار أو من أخذته نومة،‏ نجد أن المسؤولية تلقى على مجهول أو جماد أو حالة ويخرج الإنسان من إطار المسؤولية‏، وبما أنني لست أستاذاً في علم اللغويات الاجتماعي‏SocioLinguistics ‏فليس لديّ إجابة شافية لسيطرة صيغة المبني للمجهول في سياق الحديث اليومي عند بعض العرب‏، ولا أظن أن فاتني القطار أو أخذتني نومة تقع في هذا السياق‏، فالحقيقة الفاعل في العبارتين هو القطار الذي فات والنوم الذي أخذ صاحبنا‏. ما حدث هو تبديل للمواقع بين الفاعل والمفعول به‏، والذي فضل فيه الفاعل أن يكون مفعولاً به‏، أي أن القطار فاتني والنوم أخذني‏.‏
وما تلكما بالعبارتين الوحيدتين في الحديث العربي اليومي‏، آسف خانني التعبير.. أقصد في اللغة المحكية اليومية‏، وها أنا كما ترى أسقط في الفخ ذاته‏، فلم أقل إنني الذي فشل في التعبير عن جملته‏، أنا متماسك لغوياً‏، التعبير هو الذي خانني‏، ولا أدري إن كانت هنا صفات أخرى للتعبير مثل البشر كالخيانة والصدق‏.‏ حقيقة الأمر هي أنني لم أستطع أن أعبر عن فكرتي‏، إذن لماذا لا أقول هذا صراحة‏، بدلاً من تحميل اللغة والتعبير مسألة جهلي ومحدودية قدراتي‏، لماذا لا نكون في ممارساتنا اللغوية اليومية أكثر مسؤولية لنقول إنني تأخرت عن موعد القطار أو إنني استغرقت في النوم أو إنني لم أستطع التعبير عن فكرتي‏...‏ لماذا هذا الاستبدال‏، وترى ما هي أسباب ذلك في حياتنا كي نتبنى هذه اللغة الهروبية التي تلقي المسؤولية على عاتق الآخرين وتعفينا تماماً من المجابهة؟ أعتقد أن هناك مساحة كبيرة لتحليل اجتماعي للغتنا المعيشة‏.‏
وما تلك بعبارات اصطدتها للتشهير بلغتنا اليومية، فلديّ مئات الأمثلة التي لو كتبتها هنا لصار المقال كله عبارة عن قائمة من هذه التعبيرات التي تقذف بالمسؤولية بعيداً عن أصحابها أو تضع المسؤولية على أي شيء وكل شيء ما عدا هؤلاء المسؤولين عنها‏.‏
كل ما أتمناه هو أن يلاحظ بعضنا البعض كنوع من التمارين الكلامية‏، ولسوف يجد الكثير منكم آلاف الأمثلة على ما أقول من التعبيرات من حرقته السيجارة ولسعته النار وقتله العطش‏، وأدارت له الدنيا ظهرها‏، أو أدار الحظ له ظهره‏، وغير ذلك‏.‏
عدم تحمل المسؤولية هو بنية لغوية لدينا‏، وأرجو ألا يتطوع البعض بشكل هروبي أيضاً ليقول: إن هذه المشكلة موجودة في كل اللغات‏، هذا غير صحيح وإنْ وجدت في بعض اللغات‏، مثل الإنجليزية فهي محدودة وتقع في صيغ البناء للمجهول وليس استبدال الفاعل بالمفعول‏، هي ربما تغييب الفاعل‏، ولكن يبقى الناس فاعلين‏، أما صيغة القبول بموقع المفعول به على مستوى الحديث اليومي فلا توجد إلا في العامية العربية‏.‏ ويقولون إن العالم مصنوع من طريقتنا في الحديث عنه‏، بمعنى أن العالم يتجلى لنا حسب طريقة وصفنا لهذا العالم‏، فإذا تحدثنا عنه على أنه مجموعة من العوائق والتعقيدات فقد يبدو لنا كذلك‏، وإذا تحدثنا عنه على أنه عالم فرص وليس عالم مشاكل فإن فرصتنا في النجاح قد تتعاظم‏.‏
حديثنا عن العالم بهذه الطريقة الأحادية هو جزء من المشكلة‏، فإذا ما تخلينا ليس عن المشكلة بشكل فاعل ولكن أيضاً استبطنا حديث اللامسؤولية هذا لكي يصبح جزءاً من لغتنا اليومية فإن الورطة تزداد تعقيداً ويصبح الخروج منها أكثر صعوبة‏.‏
إعلان المسؤولية وتقبلها هو بداية الشعور بالذنب وأيضاً بداية قبول الفشل من أجل بدء جديد‏.‏
أما إذا لم يتقبل البعض منا بأنه فشل في الضلوع بمسؤولياته‏، فإنه سيستمر في حالة الإنكار ولن تتاح له فرصة البدء من جديد‏، إذ يكون استمرار الخطأ وكذلك تزايد التكلفة التي ندفعها نتيجة هذا العناد. إن الثمن الاجتماعي والسياسي الذي ندفعه‏ نتيجة لهذه اللغة كبير جداً وأول خطوة في الإصلاح إذا كنا جادين هي الاعتراف بالمسؤولية أولاً.