سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

صفعة نيمار

جنون الكرة يتصاعد. قصة نيمار التي شغلت الكوكب عن الإرهاب والحروب والمذابح لن تكون إلا حلقة في سلسلة هستيريا الشهرة، والمال والتنافس والاحتكار، في عالم يفقد توازنه أمام تسونامي المصالح والمضاربات. انتقال اللاعب البرازيلي من نادي «برشلونة» إلى «باريس سان جرمان» اعتبر ذا أبعاد جيوسياسية بسبب امتلاك الدوحة للنادي الأخير، ورغبتها في تأكيد قدرتها على المناورة بعد شهرين من أزمتها مع جيرانها. لكن الأخطر من ذلك، أن السياسة صارت، في السنوات الأخيرة، جزءاً من كل لعبة، وتحشر أنفها في كل ما هو جميل ومؤنس.
قبل حتى أن تهدأ عاصفة انتقال النجم البرازيلي إلى «باريس سان جرمان» بسبب المبلغ الخيالي الذي ستكلفه ويصل إلى 800 مليون دولار، كان رئيس النادي الفرنسي ناصر الخليفي يراهن على أن سعر نيمار بعد سنتين سيصل إلى الضعف على الأقل؛ لأنه «لا يوجد (نيماران) في العالم». خبر شديد السوء لمن يريدون مشاهدة لعب نظيف وقراءة رواية مشحونة بصدق المشاعر ونبل الخلفيات. فمن يظن أن الأدب أفضل حالاً من الألعاب الرياضية؛ لأن نسبة الأموال المدفوعة فيه أقل، لعله يخدع نفسه. ومن يعتقد أن السياسة أعتقت مجالاً ولم تعبث به، بما في ذلك النحت والرسم وعالم الآثار، وحتى الغناء والتراث الشعبي، يكون واهماً.
وبالعودة إلى الكرة، فإن المبلغ المدفوع لنيمار، الشاب الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين والآتي من بيئة بائسة كما غالبية لاعبي هذه الرياضة، لن يذهب كاملاً إلى جيبه؛ إذ عليه سداد 222 مليون دولار لنادي برشلونة الذي تركه مربكاً من بعده، لتحرير نفسه من البند الجزائي الملزم به. ويبدو أن مليارين ونصف المليار يورو دفعت العام الحالي في أوروبا وحدها مقابل انتقال لاعبين من نادٍ إلى آخر، وهو ربما ما لا يعلمه الجمهور المأخوذ بالمشاهدة والتشجيع والصراخ. هذا يعني أننا سنكون أمام استشراس متمادٍ في إغراء اللاعبين و«الاستحواذ» عليهم للإفادة مما يمكن أن يدروه من أرباح، وأشياء أخرى.
لم يعد من عار في استخدام مفردات ارتبطت تاريخياً بعالم الرقيق ومستلة من قاموس العبودية مثل «شراء» و«سعر» فلان، بدل التحدث عن «أجر» أو «معاش». أفذاذ الكرة أنفسهم يتباهون بـ«أسعارهم» و«الاستحواذ» عليهم. ربما أنهم يعتقدون، ما همّ أن تستخدم بحقك كل ألفاظ الاستعباد والنخاسة طالما أنك تتقاضى ما يجعل سكان الكوكب يفغرون أفواههم دهشة وحسداً؟ ولتكَلْ كل أنواع الاتهامات على الشراة الذين يتنامون بسرعة، ما داموا يؤمّنون أرباحهم ويضمنون فوائد صفقاتهم، بفضل هوس الجماهير العريضة التي باتت متعة رؤية اللاعب الذي تحبه هو مما يمكن أن تضحي بكل غال ونفيس في سبيله.
فما كاد خبر انتقال نيمار إلى «باريس» ينتشر حتى كان النادي قد جهّز قميصه الذي يحمل اسمه والرقم 10، بينما 15 ألف شخص من عشاقه يحتشدون أمام المتجرين الرئيسيين لنادي «باريس سان جرمان» في «الشانزلزيه» و«بارك دي برنس»، علهم يفوزون بقميص «معبودهم» ولو وصل سعره إلى 100 يوريو. وبطبيعة الحال، كان على النادي أن يعلن سلفاً أن الكمية محدودة، وأن الجميع لن يحصل على هذه القطعة الأثيرة لبث مزيد من التحميس والتشجيع بين صفوف مجانين نيمار.
لعبة الفقراء التي منحت الأمل للملايين من أطفال الشوارع والأحياء البائسة طوال عشرات السنين تفقد نكهتها الشعبية، بعد أن تحولت الـ«فيفا» إلى إمبراطورية نخرها سوس الرشى، وتاجرت بأقدام اللاعبين وأوشامهم وقصات رؤوسهم، وتعابير وجوههم وهي تكبّرها وتعيد المشاهد بطيئة، وترغم المتفرجين على الدفع والمعلنين على السخاء. انكشاف فضائح بلاتر، رئيس الاتحاد الأقوى والأكثر فساداً، لم تكن كافية لإخراج واحدة من أقدم رياضات العالم من قفص الاستغلال. حتى زوكربيرغ صاحب «فيسبوك»، وأغنى أغنياء الدنيا يريد أن يشتري نادياً رياضياً لكرة القدم، وعلى استعداد لأن يدفع ثمنه أكثر من مليار دولار.
عملية «شراء» نيمار (وليس لنا أن نستخدم إلا ما اصطلح عليه) التي وصفها البعض بـ«صفقة القرن»، لن تكون أكثر من فاتحة لمزيد من الجشع. فقد ارتفعت أسعار كبار اللاعبين بشكل قياسي، إذا ما قارنا نموذج نيمار مع آخر شهير مثل كريستيانو رونالدو في آخر انتقال له، والمستفيدون دائماً كثر. فالفرنسيون يحسبون من الآن أن السيد نيمار سيدفع 300 مليون يورو ضريبة على مدخوله الجديد أثناء وجوده على أرضهم، طوال 5 سنوات مدة عقده. وتناولت الصحف بالتفصيل فوائد هذا الاتفاق ومداخيله وكأنها فازت ببيع أسطول من طائرات «رافال» فخر الصناعة الفرنسية. فإلى جانب الأجور التي سيتقاضاها اللاعب هناك بيع القمصان وارتفاع عدد الإعلانات، وتزايد المتفرجين التلفزيونيين، وسلسلة طويلة من المباهج التي يدفعها محبو الكرة بصدر رحب.
«صفعة على وجه برشلونة»... هكذا وصفت إحدى الصحف الفرنسية شامتة خبر انتقال نيمار إلى باريس. لكنها قد تكون صفعة مدوّية على وجوهنا جميعاً، أن تتحول الألعاب إلى احتكارات متفلتة من كل قيد، والتسالي إلى تجارة يشتهيها هواة الربح اللامحدود، وأداة سياسية من دون كوابح أو ضوابط.